أكثر من 5 خسارات سياسية واستراتيجية واضحة .. إلى أين يقود ماكرون فرنسا ؟

Advertisement

الأستاذ بلال التليدي..

تعيش فرنسا هذه الأيام على إيقاع خفوت غير مسبوق في ثقلها الدولي، فقد تعرضت سياساتها الخارجية لنكسات متتالية، يصعب معها تفسير الأمر بمجرد ضعف قدرتها التنافسية أمام فاعلين آخرين يتقاسمون معها التحرك في الرقعة نفسها، خاصة أن بعض خساراتها حصلت في مربعاتها الإستراتيجية، وفي بعض المناطق التي تعدها حديقتها الخلفية، أو محورها التقليدي، الذي لا ينافسها فيه أحد.

فالمحاور التي كانت تتحرك فيها السياسة الخارجية الفرنسية كبيرة ممتدة، تشمل منطقة شمال إفريقيا، وبخاصة منطقة المغرب العربي، ونفوذها الإستراتيجي في إفريقيا لم يكن في يوم من الأيام مثار جدل، حتى عُدَّت منطقة غرب إفريقيا جزءاً من حديقتها الخلفية، ولم تكن فرنسا أبداً بعيدة عن منطقة الشرق الأوسط، فنفوذها في لبنان وسوريا لم يكن مجرد تعبير عن فاعل دولي له مصالح في المنطقة، وإنما كان يشكل الفاعل الرئيسي الذي لا ترسم أي خارطة في المنطقة بدون تأشيره أو موافقته.

البعض يعتقد أن مسلسل الهزائم الدبلوماسية لم يبدأ مع ماكرون، وإنما دشنه الرئيس السابق، فرانسوا هولاند، وهو توصيف صحيح، لكن، مع تراجع فاعلية هذه السياسة في الزمن الإشتراكي، إلا أنها لم تصل إلى درجة تسجيل هزائم متتالية وخسائر إستراتيجية بالشكل الذي عرفه عهد ماكرون.

على الأقل، ما فعله فرانسوا هولاند في مالي بشراكة مع المغرب يعيد بعض الهيبة للدبلوماسية الفرنسية، فقد حقق التدخل العسكري الفرنسي في باماكو بعض النجاحات الجزئية، وتم إسترجاع بعض المدن المسيطر عليها من قبل الجماعات الإسلامية المسلحة، وتم الإشراف على عملية سياسية أطرت الحياة السياسية لسبع سنوات تقريباً.

فبغض النظر عن المقاربة الفرنسية، التي لم تكن تستبطن حلاً سياسياً دائماً في مالي، إلا أن الدحر المؤقت للجماعات المسلحة، وترتيب عملية سياسية في المنطقة، لا يمكن أن يقارن بالوضع الحالي، الذي خرجت فيه فرنسا من المعادلة، بعد الانقلاب العسكري الذي أطاح بالرؤية الفرنسية وحلفائها في باماكو.

والحقيقة أن خسارة فرنسا لم تكن فقط في مالي، بل سجلت أكبر خسارة لها في ليبيا، بعد أن وضعت السياسة الخارجية الفرنسية كل بيضها في سلة الجنرال خليفة حفتر بشراكة مع دولة الإمارات وتنسيق مع مصر، فلم تستطع أن تجدد دينامياتها الدبلوماسية بعد أن وقعت ليبيا إتفاقاً أمنياً وعسكرياً مع تركيا، ونجحت في أن تقص جناح الجنرال المتمرد خليفة حفتر، وتضيق عليه النطاق ميدانياً وسياسياً، فكانت ورقة الرهان على القبائل، التي إقترحتها فرنسا كبديل لخليفة حفتر، رصاصة فارغة، سرعان ما تنبهت مصر إلى أن التمسك بها، في ظل عدم وجود أفق لها، يعرض أمنها القومي للخطر، فإتجهت إلى دعم العملية السياسية، والبحث عن خيارات أخرى لتأمين مصالحها، لتخرج فرنسا من الملف الليبي خالية من أي كسب سياسي، بل بهزيمة دبلوماسية ورمزية، لم تستطع إلى اليوم أن تبتلعها.

والحقيقة، أن وراء الملف الليبي خسارة ثالثة أضخم، تتعلق بفشل فرنسا في تأمين نفوذها التقليدي في منطقة شرق المتوسط، فقد نجحت تركيا عبر الإتفاق الأمني العسكري مع الحكومة الشرعية في ليبيا في أن تضمن ورقة إعتماد قوية للتفاوض على حقها في ثروات شرق المتوسط، ولم تنجح فرنسا، بدعمها لإتفاق الطاقة الثلاثي المبرم بين اليونان وقبرص إسرائيل، ثم بدعمها لإتفاق مصر واليونان، في محاصرة تركيا، وكانت خسارتها الأكبر في دعم اليونان في تصعيدها مع تركيا، بعد أن عجزت عن إقناع ألمانيا، وبقية قادة الاتحاد الأوروبي، بالدخول في مواجهة دبلوماسية مع تركيا.

الخسارة الرابعة كانت في إقليم ناغورني كاراباخ، بعد أن وضعت كل بيضها في سلة دعم أرمينيا، لتفاجئها العمليات العسكرية الأذرية المدعومة تركياً، وتضطر إلى أن تبحث عن خيار لتربح دبلوماسياً ما خسرته في أرمينيا عسكرياً، فلم تنجح دول المينسك، والتي ترأسها فرنسا وروسيا والولايات المتحدة الأمريكية، في التدخل لمنع ترتيب النتائج السياسية للإنتصارات الميدانية التي حققها الجيش الأذري، فتم عقد إتفاق سلام بين الطرفين بوساطة روسية، رسم واقع إسترجاع الجيش الأذري لجزء كبير من الإقليم، في الوقت الذي كانت تؤمل فيه فرنسا أن تعمد روسيا إلى جانبها إلى إستخدام الدبلوماسية لإعادة النزاع إلى مربع ما قبل الحرب، وترك أمر حله لمجموعة المينسك.

الخسارة الخامسة كانت قبل ذلك، وتحديداً في سوريا، فقد أضحت فرنسا خارج اللعبة تماماً، وصار اللاعبون الدوليون والإقليميون الأساسيون في سوريا هم الولايات المتحدة الأمريكية، وروسيا وتركيا وإيران.

والمثير للإنتباه أن السياسة الفرنسية تنبهت إلى إمكانية أن تغطي الفشل الذي لحق سياستها الخارجية، فحاولت توظيف الإنفجار الذي حصل في مرفأ لبنان، لتستعيد نفوذها التقليدي في بيروت، فأعطيت لزيارة ماكرون هالة كبيرة، مع عناق رمزي حار مع عدد من الشخصيات السياسية والثقافية والفنية، وخطاب قوي، حاول إلزام النخب السياسية بجملة تعهدات مقابل دعم فرنسي، لكن، ما إن عاد ماكرون إلى باريس، وتأكدت النخب السياسية اللبنانية أن أزمة كورونا لم تبق لماكرون أي متسع لدعم مالي للبنان للخروج من مأزقها الإقتصادي والمالي، ثم السياسي، نسيت هذه النخب خطاب ماكرون، وأبطلت تعهداتها أمامه، واسترجعت منطقها السياسي التقليدي، الذي يقوم على مبدأ “بيروت تستمع لمن يدفع” وهو المبدأ الذي فهمته أنقرة، وبادرت إلى عرض مساعداتها الجدية على الشعب اللبناني، فأعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن استعداد بلاده لتقديم المساعدات للبنان في كل المجالات.

يضاف إلى الخسارة السادسة في لبنان خسارة أخرى سابعة في منطقة المغرب العربي، وتحديداً مع شريكها الإستراتيجي المغرب، فقد إستيقظت باريس على إيقاع اتفاق تم إبرامه في الرباط، تعلن فيه الولايات المتحدة الأمريكية إعترافها بسيادة المغرب على صحرائه، وفتحها لقنصلية لها في الداخلة (جنوب المغرب) ودخولها في إستثمارات ضخمة مع المغرب موجهة إلى إفريقيا، فكانت الصدمة مزدوجة: أمنية إستخباراتية، تتعلق بعدم تنبه الإستخبارات الفرنسية لهذا المسار الدبلوماسي الذي دخله المغرب في سرية تامة، وبعيداً عن محوره التقليدي (فرنسا). ودبلوماسية، تتعلق بدخول فاعل أجنبي آخر إلى منطقة تعدها فرنسا محورها التقليدي وحديقتها الخلفية، فأصبحت مضطرة تبعاً لذلك لمسايرة الموقف الأمريكي، إذا أرادت أن تضمن نفوذها الإقتصادي والتجاري في إفريقيا، بل أصبحت مضطرة إلى إعادة تعريف مصالحها مع المغرب في ضوء التحولات الجديدة، علماً أن حجم مصالحها مع المغرب هو أكبر من حجم مصالح المغرب معها.

فرنسا، كعادتها، في المناورة الدبلوماسية، لم تجد من خيار لمواجهة هذه الخسارة سوى باللعب على التوازنات، لكن العلاقة مع الجزائر نفسها ليست على ما يرام، كما أن الوضع في هذا البلد مشوب بعدم اليقين وعدم القابلية للتوقع، بعد الأزمة الإقتصادية الحادة التي دخلتها البلاد، فضلاً عن الأزمة السياسية، والصراع بين الأجهزة الأمنية والإستخباراتية لإعادة ترتيب الوضع السياسي في الجزائر، فلا تدري فرنسا التي تراهن على الضغط على المغرب بورقة تعزيز العلاقة مع الجزائر، هل تبدأ بإصلاح أزمتها مع الجزائر، أم بالمساعدة على ترتيب خارطة طريق سياسية في الجزائر، أم بتحويل الإستثمارات الفرنسية من المغرب إلى الجزائر لدعم حركية الإقتصاد في الجزائر ومساعدتها على الخروج من جزء من أزمتها الإقتصادية ؟ أم تعتمد رمزية التلويح بتعزيز العلاقة مع الجزائر، كورقة تنبيه للمغرب، لعلمها بإستحالة تقديم أي دعم إقتصادي للجزائر بهذه الخيارات.

والحقيقة أن الخسارات الدبلوماسية لم تتوقف عند هذه الحدود، فقد أربكت سياسة ماكرون تجاه الإسلام كل خطوط الدبلوماسية الفرنسية، وكادت رؤيته أن تخلق معركة مفتوحة بين فرنسا والعالم العربي والإسلامي، بعد تصريح ماكرون الذي مس بالدين الإسلامي، لولا أن تحركت الآلية الدبلوماسية الفرنسية لتصحيح خطأ الرئيس، وطلبت فرنسا مساندة أصدقائها لتجنب سوء الفهم الذي أنتجه تصريح الرئيس.

لا نستطيع أن نمضي كثيراً في إستعراض خسارات الدبلوماسية الفرنسية زمن ماكرون، ولا نريد أن نضيف إليها الفشل في إدارة جائحة كورونا، والتأخر الكبير في إنتاج اللقاح، والذي مس بهيبة فرنسا العلمية في الخارج، وأضعف فرصها لتلبية إحتياجات العديد من المناطق التي كانت تحسبها ضمن مناطق نفوذها التقليدي.

ما من شك أن الخبراء المختصين في دراسة وتحليل اتجاهات السياسة الدولية يدركون أن السياسة الخارجية الفرنسية في عهد ماكرون كانت الأسوأ في تاريخ فرنسا، وربما مهدت لتقلص نفوذها في مناطقها التقليدية، وغيابها التام في المحاور التي كانت دائماً ما تكون محورية فيها.

Advertisement
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.