أوكرانيا ليست العراق أو سوريا.. كيف أهانتنا الحرب الروسية؟

Advertisement

بدأ الأمر بمنشورات وتغريدات على فيسبوك وتويتر يستعرض فيها الشباب العربي خفة ظله من خلال إعلان استعداده لإيواء اللاجئات الأوكرانيات الشقراوات، بل والزواج منهن إن تطلَّب الأمر. المزحة السخيفة نفسها التي تتكرر مع أي “حدث” مشابه، ونعتبرها مزحة فقط لأننا نعلم يقينا أن الأوكرانيات لن يلجأن إلى مصر أو السودان أو ليبيا مثلا، ولكن هذا لا ينفي أننا -الشباب العربي- جادون تماما في هذا المسعى.

في الواقع، هذا هو حلم الكثير من شباب العرب؛ أن يضعهم “حدث” عالمي، لا ناقة لهم فيه ولا جمل، في طريق يُحقِّق كل أحلامهم، أو بالأحرى “حدث” يجعل كل أحلامهم مُجبَرة على التحقق دون تدخُّل منهم؛ أن يحصلوا على أميرة شقراء جميلة -طبقا لمعاييرهم- دون تكاليف ودون عناء يُذكَر، أميرة شقراء جميلة ممنونة لمجرد أنها على قيد الحياة، لا مطالب لها ولا طموحات، ولا أمل لها إلا في الحد الأدنى من العيش.

نعتبره “حدثا” لأننا لسنا واثقين من صحة وصفه بـ”الحرب”. أول شروط الحرب أن تقوم على درجة ما من التكافؤ أو التقارب في موازين القوى؛ يمكن لروسيا أن تحارب الولايات المتحدة، أو الصين، أو حلفا من فرنسا وإنجلترا وألمانيا. لسنا واثقين من اتزان القوى في الأمثلة السابقة لأننا لسنا خبراء إستراتيجيين، بل عادة ما نأتي هنا لنُحدِّثك عن الأهداف المتوقَّعة، وقدرات الننّي في مسح الملعب بصريا، وغضب سايمون كوبر الدائم من غباء مسؤولي كرة القدم، ولكننا نعتقد أن أي مثال منهم سيكون أكثر منطقية من عبارة “الحرب الروسية على أوكرانيا”، هذه عبارة أشبه بأن تقول “المعركة بين الدب والسنجاب”، الفارق الوحيد بينهما أن الثانية مضحكة نوعا.

ضحك من القلب
كان هذا هو عنوان “الترند” الذي اكتسح عالمنا العربي على منصات التواصل في البداية. لم يهتم الشباب المصري مثلا بأن بلدهم هو أكبر مستورد للقمح في العالم تقريبا، وأن هذا يضعها في طريق الحرب مباشرة، وبصراحة، لا يمكننا لومهم لأننا لم نكن نعلم ذلك أيضا، رغم أنها معلومة بديهية يمكن استنتاجها. لا أحد يهتم بما تفعله الحكومة، ولا بما إن كانت تستورد القمح أو من أي بلد تستورده. الأهم والأكثر اتصالا بالواقع اليومي هو احتمالية لجوء الشقراوات الأوكرانيات إلى مصر، وحتى لو كانت احتمالية بنسبة 1%.

كالعادة، وكما علَّمتنا منصات التواصل في “الأحداث” المشابهة، صعد “الترند” المضاد بالقوة نفسها، وكالعادة أيضا، خضعت له الأغلبية حتى ولو لم تقتنع. هناك “ميم” شهير منتشر على فيسبوك لشاب يُرحِّب باللاجئات الأوكرانيات في بيته، ثم -تخيَّل- يسخر من الأمر ذاته بعدها بساعات. “كيف يسحق الترند الإنسان؟”؛ كان هذا العنوان العبقري الذي اختاره أحدهم للتعليق على الصورة.

اللافت أنه رغم كل الانتقادات الحادة التي تعرَّض لها الشَّبِقون للاجئات الأوكرانيات الشقراوات لاحقا، فإن الأمر مفهوم نوعا، حتى ولو لم يكن مُبرَّرا؛ كل هذا يحدث على بُعد آلاف الكيلومترات، لأسباب لا تعنيهم، وفي عالم موازٍ يصعب تخيُّله أصلا، ناهيك بالتعاطف مع أفراده. منطقيا، يصعب على المأزوم أن يفكر فيما يتجاوز أزمته، وهذا قد يكون مُبرِّرا لعدم الاكتراث بالأمر كله، ولكنه لا يُبرِّر التدني في التعاطي معه، حتى ولو على سبيل المزاح. ولو أردت أن تتخيَّل مدى وضاعة الأمر، فما عليك سوى استخدام القاعدة البديهية الشهيرة؛ ضع نفسك مكانهن.

كثرة الضحك تُميت القلب فعلا، ورغم ذلك لم تكن هذه آخر مزحة أنتجتها الحرب، بل اكتشفنا لاحقا أن عددا ممَّن نعتبرهم “ضحايا حرب من الدرجة الأولى” -إن جاز التعبير- لا يُعتبرون كذلك؛ محلل إستراتيجي من جورجيا ومراسل من “CBS” ومحاور من “CNN” أكَّدوا لنا في أكثر من مناسبة أن هؤلاء مواطنون أوروبيون بيض شُقر لا يجوز التعامل معهم مثل السوريين أو العراقيين أو الأفغان، وفي الحقيقة، هم يقصدون العرب، أو مواطني دول العالم الثالث عموما، أو مَن يحلمون بالأميرة الأوكرانية الشقراء. (1)

فجأة تحوَّلنا من أصحاب النكتة إلى موضوع النكتة، وكان من الممكن اعتبار ذلك من قبيل العدالة الشعرية لو كانت المقارنة تجوز بين عدد الإعجابات بالأفكار العنصرية على تويتر وفيسبوك، وبين عدد الأرواح التي أُزهقت في الحروب العنصرية الفعلية لأن ضحاياها لم يكونوا من الأوروبيين البِيض أو الشُّقر.

هذه مفاجأة أخرى؛ الغرب، الذي نعتبره كتلة واحدة متماسكة لسبب ما لا يعلمه أحد، والذي لا يجوز تسميته “غربا” ابتداء لأن بعضه يقع في الشرق، يحتقرنا فعلا، والمفاجأة الثالثة كانت أن رعب بعض إعلامييه البِيض الشُّقر كان أكبر من رغبتهم في الحفاظ على مشاعرنا، أما المفاجأة الرابعة فكانت الأكثر مفاجأة بين كل تلك المفاجآت، إذ تأكَّد لنا أن الأوكرانيات الشقراوات لا يقرأن منشوراتنا وتغريداتنا ولا يعبأن بمزاحنا.

الأهم أننا اكتشفنا أن العكس ليس صحيحا، فبينما غزت الإهانات المترجَمة صفحات فيسبوك وتويتر العربية، لم يهتم أحد بنقل رغباتنا إلى الأوكرانيات، ولم يخبر أحدهم الروس بأن بوتين له معجبون في عالمنا العربي لسبب لا يعلمه إلا الله، وفجأة اكتشفنا أن مزحة غير بريئة هدفها لفت الانتباه قد حوَّلتنا إلى أهداف مستمرة لطوفان العنصرية الإنسانية القادم من مسرح الأحداث.

مزاح ثقيل
هذا عقاب قاسٍ للغاية. هناك تعبير إنجليزي شهير صُكَّ خصوصا لمثل هذه المواقف هو “The joke is on you”، ويعني: “المزحة أصبحت عليك” بالترجمة الحرفية، وهو يصف الحالة التي تحاول فيها السخرية من أحدهم فيتحوَّل الموقف إلى السخرية منك شخصيا. “المزحة أصبحت علينا” بسرعة قياسية رغم أن كل ما فعله المازحون كان الإشارة إلى رغبتهم في استغلال اللاجئات الأوكرانيات، لم يغزوا أي بلد ولم يُعلنوا الحرب ولم يدمروا آلاف المنشآت ولا يعلمون حتى عدد الدول المشتركة في حلف شمال الأطلسي. يمكنك أن تقرأ العبارة السابقة بنبرة تهكمية ساخرة أو بأخرى جادة وستظل صحيحة في الحالتين. (2)

مزحة ثقيلة لم ولن نستطيع ابتلاعها أبدا، ببساطة لأنها حقيقية تماما. هذا يشبه أن يمزح أميركي عن ضرب هيروشيما وناغازاكي بالقنابل الذرية ثم يتوقع أن يضحك اليابانيون. في الواقع، لن نندهش لو خرج أحد مذيعي شبكة فوكس الأميركية ليستبعد الحرب النووية باعتبار أن روسيا ليست اليابان.

ما علاقتنا نحن -مشجعي كرة قدم- بكل ذلك؟ لا نعلم بالضبط. كما أخبرناك فنحن عادة ما نأتي إلى هنا لنُحدِّثك عن محمد الننّي وسايمون كوبر والأهداف المتوقَّعة، ولكن قبل أن نُفيق من مزاح “الغرب” الثقيل، كان الاتحاد الدولي لكرة القدم “فيفا” (FIFA) ونظيره الأوروبي “يويفا” (UEFA) يستعدون لإطلاق مزحة أخرى، تضمَّنت حرمان روسيا من المشاركة في كأس العالم القادمة، وأنديتها من اللعب في البطولات الأوروبية القارية، امتدادا لحزمة العقوبات الاقتصادية التي فُرِضت على الروس في أعقاب “الحرب”. (3)

في تلك اللحظة، بدا وكأن الإهانات ستُلاحقنا أينما ذهبنا، وحتى كرة القدم التي نزح إليها الكثيرون في أعقاب فشل الربيع العربي لم تَسلم من تبعات المزاح الثقيل. أبو تريكة تساءل عن ازدواجية المعايير الواضحة، وهو أمر لا نتشكَّك فيه عندما يأتي الحديث عن “الغرب”. صحيح أن مَن عاقب أبو تريكة على قميص غزة الشهير كان الاتحاد الأفريقي، وصحيح أنه لم يكن عقابا حقيقيا بل مجرد تحذير شفهي، وصحيح أن ثنائي ليستر -حمزة الشذري وويسلي فوفانا- اللذين رفعا علم فلسطين بعد الانتصار على مانشستر سيتي في مباراة الدرع الخيرية لم يُعاقبا، ولكن صراع جماهير سيلتك التاريخي مع العقوبات الأوروبية معروف وليس بحاجة إلى توثيق، والمعايير مزدوجة فعلا بلا أدنى شك. (4) (5) (6) (7) (8) (9)

ليس أدل على ذلك من حقيقة أن فيفا فعليا لا يملك أي أرضية قانونية لحرمان روسيا من المشاركة في المونديال. هذه مفاجأة أخرى؛ ستيف بانك، البروفيسور الأميركي في قانون الرياضة الدولي بجامعة كاليفورنيا “UCLA”، يعتقد أن فيفا قرَّر عقاب روسيا أولا ثم العثور على التفسير القانوني لاحقا، ببساطة لأن قواعده التي تمتد عبر 92 صفحة لا تمنحه الحق في إيقاف منتخب ما بناء على تصرفات حكومة بلاده. (10)

أقرب ما يملكه فيفا لتبرير قراره هو الفقرة السادسة عشرة في القانون، التي تنص على حقه في عقاب الاتحاد الوطني لإحدى الدول الأعضاء عندما يخالف قوانينه. المشكلة الوحيدة هنا أن الاتحاد الروسي لم يخالف أي قوانين، وحتى لو فعل، فالعقوبة شملت كل الفِرَق الوطنية الروسية بلا استثناء ولم تكن موجَّهة للاتحاد الروسي ذاته، وهذا يجعل روسيا قادرة -نظريا على الأقل- على الحصول على حكم سريع قاطع من المحكمة الرياضية الدولية “CAS” إن قرَّرت الاستئناف على القرار، هذا طبعا إن لم ترفض المحكمة الرياضية الدولية الاستئناف لأن المنتخب الروسي ليس المنتخب الفرنسي أو الألماني مثلا.

بذرة الشك
اللافت في مفهوم العنصرية أنها ليست مُطلَقة لدى أي طرف من أطراف الصراع، وبغض النظر عن وزنه الدولي وتأثيره في ميزان القوى، وهو ما يمكن ملاحظته حتى في وقائع أقل استقطابا بكثير من الاجتياح الروسي، ببساطة لأن حتى القرارات التي تبدو صائبة، ويتفق عليها الجميع، غالبا ما تؤخذ للأسباب الخاطئة.

النتيجة أن قواعد فيفا فيما يخص القضايا السياسية تحوَّلت إلى ما يشبه العُرف؛ كل حدث له قوانينه، وكل قانون يتحدَّد بناء على أطراف الصراع ومدى قدرتهم على كسب التأييد والتعاطف الدولي. إن أضفت إلى ذلك حقيقة أن فيفا عاجز فعليا عن تحديد ما هو سياسي وما هو غير ذلك، يصبح المشهد الحالي مفهوما فجأة، ليس لأنه يخبرك أن معايير فيفا مزدوجة -أنت تعلم ذلك سابقا-، ولكن لأنه يخبرك أن فيفا نفسه ليس إلا مجرد أداة. فيفا نفسه لم يتخذ أي إجراء ضد روسيا قبيل كأس العالم الأخيرة بسبب اجتياح جزيرة القرم، لأنه، وكما تعلم، فأوكرانيا ليست القرم. (11)

فيفا أيضا لم يرغب في اتخاذ أي إجراء ضد روسيا في السابق رغم سجلها المعروف فيما يخص حقوق الإنسان، أو حتى انتقاد دول حصلت على حقوق تنظيم كأس العالم، بما فيها روسيا نفسها، وبالمثل فإن الاتحاد الإنجليزي لم يراجع سجل حقوق الإنسان لدول تملَّك مواطنوها أندية في البريميرليغ مثل رومان أبراموفيتش وغيره، ببساطة لأن كل هذه شؤون لا تهم أميركا أو إنجلترا أو فرنسا أو ألمانيا، والافتراض المسيطر بأن أجندة فيفا تكتبها دول “الغرب” هو افتراض صحيح تماما رغم اهترائه من كثرة الاستخدام، ورغم عشوائية مصطلح “الغرب” ذاته. (12)

في الواقع، فيفا كان يأمل في الاكتفاء بمنع النشيد والعلم الروسي من المباريات والسماح للمنتخبات الروسية بالمشاركة، ولكن اعتراضات منتخبات السويد وبولندا والتشيك على اللعب ضد روسيا جعلت الأمور أصعب، ووضعت فيفا أمام اختيار من اثنين؛ إما معاقبتهم وإما معاقبة روسيا. لذا كان الاختيار واضحا، خاصة مع منتخبات كتلك، وصفها الكتاب الرياضي مايك غودمان بأنها تمتلك أسوأ خيارات جيو-سياسية ممكنة ضد روسيا في موقف كهذا. (12)

كل ما سبق بديهيات، ولكنه يترك مرارة في الحلق يصعب ابتلاعها. طبقات العنصرية لا تنتهي، ودائما ستجد “هؤلاء” الذين ليسوا “أولئك”، وكلما بحثت، اكتشفت أن مُمارسي العنصرية اليوم قد يكونون ضحاياها غدا، فبسهولة يمكنك أن تتخيل مواقف تُقال فيها عبارات مثل “أميركا ليست فرنسا” أو “ألمانيا ليست إيطاليا” أو “إنجلترا ليست اسكتلندا”، ببساطة لأن العنصرية ليست إلا سلسلة لا نهائية من المزايدات تحرق الأرض التي يقف عليها الجميع، فحتى البيض الشُّقر المتحضرون ليسوا متساوين بدورهم.

العزاء الوحيد هنا قد يكون أن كل تلك الحيوانية البشرية -إن جاز التعبير- قد تدفعنا للتساؤل؛ هل يملك السُّمر حقوقا متساوية بدورهم؟ هل كنا لنتحمَّس لاستضافة اللاجئات لو كانت روسيا قد اجتاحت أوغندا أو الكونغو أو جامايكا؟ هل نحن مستعدون لوضع أنفسنا في المكان ذاته وتخيُّل ما الذي كان ليحدث لو كانت الكاميرون أو بوروندي هي مَن يتعرَّض للقصف؟

“الحرب” الروسية قد تكون فرصة للبعض في “الغرب” للتذكير بعنصريتهم، ولكن أي تحليل مُتمهِّل يتجاوز قشور الحدث سيجد ما هو أكثر من ذلك للحديث عنه، خاصة عندما تسود منصات التواصل نغمة الضحية المتطهرة. صحيح أننا لا نملك القدرة على اجتياح أوكرانيا أو نسف مدن كاملة بالقنابل الذرية أو بناء إمبراطوريات عسكرية على التفوق الجيني للبشرة الداكنة، ولكن إن كان هناك نصف مملوء من هذا الكوب البغيض فهو أنها فرصة مناسبة لنراجع أنفسنا؛ هل غَضَبُنا من العنصرية الغربية نابع من إيماننا العميق بالإنسانية؟ هل كل الضحايا متساوون في نظرنا فعلا؟ هل نعتقد بأن لكل بشري الحق في الحياة ما دام لم يسلب أحدهم الحياة؟ أم أننا غضبنا فقط لأننا فوجئنا بأن “الغرب” قد يكون بعنصريتنا نفسها أحيانا؟

Advertisement
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.