أوكرانيا: ما الثمن الذي قبضه الألمان؟

Advertisement

يبدو أن القبول بتسليح ألمانيا وصعودها كمهيمن أوروبي هو الثمن الذي قبضته مقابل تخلّيها عن “نورد ستريم 2”.

 

حتى اللحظات الأخيرة لما قبل الحرب في أوكرانيا، تمسّك الألمان بسياساتهم التقليدية حيال رفض زيادة موازنة الدفاع، وأكدوا محدودية استخدام القوة في الخارج، والتي أقرّوها في دستورهم لمرحلة ما بعد توحّد ألمانيا. ولكن الحرب الأوكرانية بدّلت المعادلات، فأعلن المستشار الألماني أولاف شولتز تزويد أوكرانيا بمعدات عسكرية، وزيادة موازنة الدفاع الألمانية، حيث سيُخصّص 100 مليار يورو لصندوق خاص يستهدف تعزيز المنظومة الدفاعية للقوات المسلحة.
واللافت أنه خلال حكم أنجيلا ميركل، طالبت وزيرة الدفاع الألمانية السابقة، أرسولا فون دير لاين، بزيادة في ميزانية الجيش خلال الفترة التشريعية الممتدة بين 2019 و2021، تقدّر بـ 12 مليار يورو، الأمر الذي رفضه شولتز (بصفته وزيراً للمالية)، مصرّاً على منح الجيش 5.5 مليارات يورو فقط.
واليوم، تثار التساؤلات بشأن هذه الانعطافة الألمانية، وقبول ألمانيا بفرض عقوبات أميركية على نورد ستريم 2، ما يسبّب لها خسارة اقتصادية واستراتيجية، فما هي أسبابها، ونتائجها؟
ولتقييم الأثر والنتائج التي تترتّب على القرارات الألمانية وأسبابها، لا بد من إلقاء نظرة تاريخية على التطورات التي حصلت منذ توحيد ألمانيا لغاية اليوم:
1-  توحيد ألمانيا والشروط الخارجية:
خلال فترة انهيار الاتحاد السوفياتي، ومع قيام الغرب بإقناع غورباتشوف بالموافقة على توحيد ألمانيا مقابل ضمانات، تمّ التوقيع على معاهدة التسوية النهائية في موسكو في الـ 12 من أيلول/ سبتمبر 1990، والتي أدّت إلى توحيد ألمانيا في الـ 3 من تشرين الأول/ أكتوبر 1990، وأصبحت ألمانيا الموحدة دولة ذات سيادة كاملة في الـ 15 من آذار/ مارس 1991.

 

في المجال العسكري، تسمح المعاهدة لألمانيا بإقامة تحالفات والانتماء إليها، ويمكن لها نشر قواتها في المناطق الشرقية بعد انسحاب السوفيات، لكن مع التعهّد بعدم نشر أسلحة نووية أو قوات مسلحة أجنبية في أقاليمها الشرقية وبرلين، وبتخفيض قواتها المسلحة إلى ما لا يزيد على 370.000 فرد، على أن لا يكون أكثر من 345.000 منهم في الجيش والقوات الجوية.

كما تعهّدت ألمانيا بتخليها عن تصنيع الأسلحة النووية والبيولوجية والكيميائية وامتلاكها والسيطرة عليها، والتطبيق الكامل لمعاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية، واستخدام القوة العسكرية فقط وفقاً لميثاق الأمم المتحدة.

هذه الشروط وضعتها الدول الأربع التي تفاوضت مع الدولتين الألمانيتين؛ فمن ناحية الاتحاد السوفياتي أراد أن يحفظ ابتعاد القوات الأجنبية والأسلحة النووية بعيداً عن أراضيه إلى أقصى حدّ ممكن، ومن ناحية الدول الغربية، كان هناك حذر دائم تاريخياً من توحيد ألمانيا وتسلّحها؛ فبعد توحيد ألمانيا من قبل بسمارك وارتفاع النزعة القومية والتسلح، تسبّبت ألمانيا في الحرب العالمية الأولى. وفي المرة الثانية، أدّى إعادة تسليح ألمانيا وارتفاع النزعة القومية (النازية) فيها إلى غزو هتلر لجيرانه، والتسبّب في الحرب العالمية الثانية.

2-  خلال التسعينيات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين:

بعد إعادة توحيدها في عام 1990، أصبحت ألمانيا أكبر دولة ديموغرافية واقتصادية في الاتحاد الأوروبي، ولكنها كانت منهكة اقتصادياً، وقد وُصفت من قبل مجلة الإيكونوميست (1999) بأنها “رجل اليورو المريض”.

قبل حكومة ميركل، التي وصلت إلى السلطة في تشرين الثاني/ نوفمبر 2005، اعتُبرت ألمانيا دولة “مدنية”، وبالفعل ركّزت السياسة الخارجية الألمانية على تجنّب استخدام القوة العسكرية، والسلمية، والموقف الانعكاسي المؤيد للتكامل الإقليمي، والتوجّه المؤيّد للغرب، والدبلوماسية المتعددة الأطراف.

وهكذا، وعلى مدى عقدين تقريباً، انهمك الألمان في تقوية دولتهم، وترميم اقتصادهم، وتقليص الفجوات الاقتصادية والاجتماعية بين شرق البلاد وغربها، لذا لم يكن باستطاعتهم أن يمارسوا أي هيمنة ضمن الاتحاد الاوروبي.

وهكذا أحجمت ألمانيا عن التصرف كقائد إقليمي، واستمرت عملاقاً أوروبياً نائماً، فلم تمارس قيادة فعلية سياسية في الاتحاد الأوروبي، وبقيت القيادة بيد كل من بريطانيا وفرنسا.

3-  حكم ميركل وأزمة اليورو:

في العقد الذي تلى عام 2009، ومع بداية أزمة اليورو، أسهم النمو الاقتصادي الألماني وسيطرة ألمانيا على القرار الأوروبي، بخصوص الأزمة والشروط التي فُرضت على اليونان، في إظهار قوة ألمانيا السياسية والاقتصادية على دول الاتحاد.
وبضعف فرنسا، بات النفوذ الألماني حقيقة واقعة على حساب جميع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، وفرنسا على وجه الخصوص. وبدا أن فرنسا باتت تحتاج إلى القوة الألمانية كرافعة للاتحاد الأوروبي، وبرلين تحتاج إلى فرنسا للتنسيق الإقليمي وعدم الظهور بمظهر المهيمن في أوروبا.
ومع نشوب الأزمة في أوكرانيا عام 2014، وأزمة اللجوء عام 2015، بدأت برلين تتصدّر المشهد الأوروبي، ولم يعد هناك من مفر للقيام بالقيادة السياسية بعد أن أبرزت أزمة اليورو السابقة القيادة الاقتصادية لألمانيا في الاتحاد الأوروبي. ولكن، في الإطار العسكري، رفضت ميركل الدعوات الفرنسية إلى إنشاء جيش أوروبي موحّد ومستقل عن أميركا، كما رفضت دعوة ترامب إلى زيادة موازنة الدفاع ومساهمة ألمانيا في الناتو إلى 2% من الناتج القومي.
4-  اليوم – بعد الحرب الأوكرانية
بعد تصدّر القيادة الاقتصادية والسياسية، لا يمكن لألمانيا أن تكون عملاقاً أوروبياً ودولياً من دون قوة عسكرية.
اليوم، بعد الحرب في أوكرانيا، يستشعر الشعب الألماني، كما كل الشعوب الأوروبية، الخطر الأمني، لذا لن تكون هناك معارضة داخلية لتغيير السياسة الألمانية السابقة “المدنية”، والتي استمرت عقوداً طويلة من الزمن. وفي الخارج، هناك موافقة ضمنية من قبل الدول الغربية على زيادة تسليح ألمانيا، ولن يكون هناك أي اعتراض أوروبي (فرنسي خاصة) على صعود ألمانيا العسكري، بسبب الضعف الفرنسي والأوروبي، والشعور العارم بالتهديد الروسي لحلف الناتو.
وهكذا، يبدو أن القبول بتسليح ألمانيا وصعودها كمهيمن أوروبي، وبالتالي الصعود إلى القمة العالمية، هو الثمن الذي قبضه الألمان مقابل تخلّيهم عن خط أنابيب نورد ستريم 2، بما كان يعنيه لهم من أرباح اقتصادية وجيوستراتيجية.
كان خط نورد ستريم 2 يؤمّن لألمانيا الغاز بأسعار أقل بخمس أو ست مرات من أسعار السوق العالمي، وهذا رافعة مهمة للاقتصاد الألماني، وللنمو الاقتصادي ورفاهية الألمان. كما كان هذا الخط سيؤمّن رافعة استراتيجية سياسية لألمانيا، لكونها ستصبح مركز الغاز الذي يتم توفيره لأوروبا.
بتخليها عن هاتين الميزتين، حصلت ألمانيا في المقابل على الركن الأساسي لأي دولة تسعى إلى الهيمنة الإقليمية والوصول إلى مصاف الدول العالمية الكبرى: القوة العسكرية.
وهنا يكون السؤال الجوهري: بعد أن تصعد ألمانيا كعملاق أوروبي، هل يمكنها أن تستمر في قبول ترتيبات وتقسيمات النظام الدولي المتوارث منذ 1945، أم أنها ستحاول تغييره؟ وكيف يكون التغيير من دون حرب، والتاريخ يشير إلى أن صعود ألمانيا كان دائماً حافزاً للتوسّع ونشوب الحروب العالمية؟

 

Advertisement
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.