محمد جسوس …
من العار كذلك أن نرى مختلف أشكال الممارسات التي لا تزيد إلا في غرس اليأس والتيئيس وجعل الشباب، وهو لم يصل بعد حتى إلى العشرين، ينظر إلى الكون، وينظر إلى حياته، وينظر إلى مجتمعه وإلى حيه وإلى أسرته نظرة الكهل الذي تجاوز السبعين أو الثمانين سنة. يتحدث كما لو غلبه الزمن، يتحدث كما لو كان مقهوراً ولم يبق له أي أمل.
بينما نحن نعرف أن الأمل ظاهرة بيولوجية قبل أن تكون ظاهرة نفسانية أو ظاهرة إجتماعية.
الأمل ظاهرة بيولوجية لأنه إلى سنّ 19 أو 20 تكون أجهزتنا العصبية ومختلف مقومات جسدنا النفسية ما زالت تنمو، ما زال دماغنا ينمو، ما زال كياننا السيكولوجي ينمو، ما زالت مؤهلاتنا العاطفية ومؤهلاتنا النفسانية تتطور وتنمو، إذ لا نستكمل تكويننا إلا في حوالي 19 أو 20 سنة.
فكيف يعقل أن يكون الإنسان بما يتسم به من عقل ومن قدرة على الفكر وعلى التجاوز يسقط أمام التاريخ ؟؟ ، يسقط أمام المصاعب، يستسلم لها، يخضع لها، يبدأ يساهم في غرس نوع من اليأس ونوع من الرعب والخوف، على هذا المستوى وهو المستوى الأول.
ونحن في الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية نطالب بوضع حدّ لسياسة فرضت على الشعب المغربي منذ نهاية الخمسينات، سياسة أصبحت تعتبر الدراسة خطراً، وتعتبر التعليم وسيلة فقط لتكوين نوع من المشاغبين أو إنتاج نوع من الشباب يدخل سوق الشغل فلا يجد فيه إمكانات العمل فيتحول بسرعة إلى متمرد، إلى معارض للنظام الإقتصادي والإجتماعي والسياسي السائد في هذه البلاد.
نحن نقول إذا كان الشباب من طبيعته يتسم بالنقد ويتسم بالتذمر والتمرد والمعارضة فلأن الوضع بالفعل يستحق ذلك، وعند محاكمة الشباب وتجريم الشباب يجب محاكمة الأوضاع. يجب أن نتساءل لماذا بعد مرور ما يقرب من ثلث قرن على حصول هذه البلاد على استقلالها ما زلنا في وضعية أحسن وسيلة لوصفها هي أننا بلد سائر في طريق التخلف ؟ إذ في الوقت الذي كانت فيه نضالات الشعب المغربي تطمح على الأقل نحو تجاوز بعض الأشكال الإبتدائية، فنحن نلاحظ أننا ننتقل من تخلف إلى تخلف على مستوى أعمق. إننا في سلم شرف التخلف ننتقل من الدرجة الرابعة إلى الثالثة فالثانية فالأولى، فنحن نتقدم، لكن مع كامل الأسف نحو مزيد من التراجع بالنسبة للقيم الحضارية الكبرى، القيم التي بنتها الإنسانية، وهي قيم العقلانية والأمل والإيمان بالتقدم والمشاركة، وإشراك كل الطاقات البشرية المتواجدة في مجتمعنا في بناء مستقبلها وفي تقرير مصيرها، وهي الإعتراف بأنه لا يوجد هناك شخص ولا حفنة ولا مجموعة كيفما كانت تحتكر الحكمة والحقيقة، لأن الحقيقة والحكمة لا توجد إلا في مشاركة البشر والتبادل فيما بينهم. الحقيقة الوحيدة هي الحقيقة التي يبنيها البشر عن طريق تعاونهم وتفاعلهم وتبادل الرأي والنقد الذاتي فيما بينهم، والتعاون فيما بينهم إنطلاقاً من تجاربهم وإنطلاقاً من مقومات كل واحد منهم، ومحاولة إستثمار وجمع أقصى ما يمكن من الإيجابيات، وما أكثرها، التي يتوفر عليها كل مجتمع كيفما كان. من هذا المنظور أؤكد مرة أخرى أننا متخوفون كثيراً على مستقبل شبابنا. إننا نلاحظ حالياً بروز جيل جديد من الشباب يتسم بالإستسلام منذ البداية، ونلاحظ على صعيد المؤسسات التعليمية كما نلاحظ على صعيد الحزب وعلى صعيد النقابة وكما في الجمعيات، بروز جيل من الشباب ليس له علم حتى بالحد الأدنى من حقوق وواجبات المواطنة، شباب يائس مسبقاً.
أما على المستوى الثاني أريد أن أقول أنه لا خير في المجتمع المغربي إذا لم يراهن على الجامعة المغربية. فالجامعة كجامعة تكتسي عندنا مكانة خاصة، وتأتي مكانتها من كون ما حدث من ثورات في المجتمعات الصناعية هو تطور لم نعرف منه نحن شيئاً، فالمجتمعات الصناعية المتطورة لكي تصبح كذلك مرت عبر أربع ثورات أساسية، ثورة سياسية ديمقراطية، وثورة تكنولوجية صناعية، وثورة إجتماعية قضت على بقايا الإقطاع والنظم القبلية ونظم الكنيسة ومختلف أشكال التخلف، وثورة كذلك ثقافية وفكرية وإيديولوجية رسخت في هذه المجـــتمـــعات أفـــكــار العـــقلانية والتقدم والحتـــمية والمادية والإيمان بالمستقبل. إشكالنا، والذي يعطي للجامعة مكانة إستثنائية في المغرب، أنّ هذه الثورات الأربع حدثت في المجتمعات الصناعية عن طريق طبقة أساسية هي الطبقة البرجوازية في ظروف كانت فيها الطبقة البورجوازية تمثل طليعة الثورة داخل هذه المجتمعات قبل أن تتحول إلى طبقة لها إمتيازات ولها مكانة تريد الحفاظ عليها. وبالتالي بدأت تنتقل من منطق ثوري إلى منطق المحافظة والرجعية. إعتمدت هذه المجتمعات المصنعة على ثلاث مؤسسات في سير وتطور هذه الثورات الأربع، وهي الدولة الوطنية الحديثة والعصرية، ثم المعمل أو المصنع بإعتباره ليس فقط مكاناً للإنتاج، بل كذلك مكاناً للبحث العلمي والتكنولوجي وبناء الكفاءات التقنية المتعددة وتطوير هذه ىالكفاءات، التي إعتمدت كما قلت على الدولة وعلى المصنع وعلى الجامعة. فإشكالنا في المغرب أننا إلى الآن لم نعرف أية واحدة من الثورات الأربع التي ذكرت، لا الثورة الديمقراطية، ولا الثورة الصناعية، ولا الثورة الإجتماعية، ولا الثورة الثقافية. وإن الأمل كان معقوداً في هذا المجال على إمتدادات الحركة الوطنية والمقاومة بعد الاستقلال، ووقع إستيلاء على السلطة السياسية وتقديمها لمن لا يستحقها ولا يتوفر على الشرعية الضرورية لذلك. وبالتالي وقع إجهاض الثورة العامة التي كان المهدي بن بركة يحلم بها عندما كان يتحدث عن المجتمع المغربي الجديد. وقع إجهاض تلك الثورة العامة وبصفة مباشرة وقع كذلك إجهاض إمكانيات بروز دولة وطنية حديثة عصرية تستعمل أساليب العلم والتكنولوجيا والتنظيم الجديد، وتكون في خدمة الشعب وليس الشعب في خدمة الدولة. كما وقع إجهاض إمكانية بروز الصناعة كوسيلة أساسية لتطوير المجتمع.
فخطورة الجامعة هنا أنها مطالبة بأن تقوم بدورها كجامعة، وأن تقوم بالأدوار التي طرحها التاريخ على الدولة الحديثة، أو طرحها التاريخ على المؤسسات الإنتاجية الصناعية الحديثة، والتي ما أقلها في بلادنا. وهذا جانب أساسي يعطي لمسألة الجامعة دوراً إستراتيجياً في المرحلة الراهنة. وهناك على الأقل جانب إنساني يرتبط بالرصيد الحضاري للمجتمع المغربي، ويرتبط حتى بالتاريخ الحديث للجامعة المغربية. نحن ننتمي إلى حضارة إسلامية كان تأسيسها أو بداية تأسيسها على مبدأ «إقرأ باسم ربك الذي خلق». ونحن ننتمي إلى حضارة تشيد بإستمرار بالذين يعملون (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون)، وما أكثر هذه الآيات القرآنية. ونحن ننتمي إلى حضارة منذ قديم العصور كان فيها مكانة خاصة للعلم والمعرفة، ومكانة خاصة للطالب. فالطالب عندنا هو ذلك الشخص الذي يطلب (أطلبوا العلم ولو في الصين)، و(اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد). فالطالب عندنا ليس فقط بمعنى مرحلة، بل المثقف يبقى طالباً طوال حياته، والعامل يبقى طالباً طوال حياته.
«الاتحاد الاشتراكي» المغربية، 12 تشرين الثاني (نوفمبر) 1989.
عالم الاجتماع الذي أغضب الملك الحسن الثاني..
كان المغربي (1938-2014) عالم إجتماع في المقام الأول، بل يذهب البعض إلى إعتباره أحد كبار الآباء المؤسسين لعلم الاجتماع المغربي المعاصر؛ خاصة في أطوار ما بعد الإستقلال، وعقد الستينيات الذي شهد عواصف إجتماعية وسياسية عديدة، ذات نوعية فارقة. وكانت مدرسته، إذْ يجوز الحديث هنا عن مدرسة متكاملة أسّس لها الراحل، تقوم على ثلاثة أركان: ربط علم الإجتماع النظري بالبحث الميداني، خاصة في ما أسماه «العالَم القروي»؛ وتجذير هذا الركن الأول في الفلسفة، والدرس الفلسفي الجامعي والتربوي تحديداً؛ وإقامة الصلة بين الخلاصات السوسيولوجية والواقع السياسي، أو بالأحرى وقائع السياسة العاجلة مثل تلك الآجلة. وبذلك فإنه لم يكن مستغرباً أنّ جسوس، فور عودته من كندا والولايات المتحدة بشهادات عليا في علم الإجتماع من جامعتَيْ لافال وبرنستون، إنخرط في العمل السياسي المباشر؛ وإنضم إلى حزب «الإتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية»، بل وصل إلى عضوية مكتبه السياسي أيضاً، فأتيحت له الفرصة تلو الأخرى كي يربط النظرية بالممارسة، والجامعة بالحياة السياسية. ولم يكن بغير مغزى خاصّ أنّ مقالته المطوّلة، المقتبسة فقرات منها أعلاه، كانت قد أغضبت الملك الراحل الحسن الثاني شخصياً، وأمر أن تنشر وزارة التربية الوطنية رداً مفصلاً عليها. كذلك حرصت السلطات على إغلاق معهد السوسيولوجيا (الذي جهد جسوس، صحبة عبد الكبير الخطيبي وآخرين، على تطويره والإرتقاء بمناهجه وطرائقه)، وإلحاق دروس علم الإجتماع بشعبة الفلسفة.
وفي غمرة إنهماكات وانشغالات، كثيرة ومتشعبة، ظل جسوس زاهداً في تأليف الكتب، مفضلاً عليها الأبحاث والمقالات والدراسات المنفردة؛ ولهذا لا يُعثر له إلا على كتب قليلة منشورة، حرص أصدقاؤه وتلامذته على جمعها، بينها «طروحات حول المسألة الاجتماعية»، و»طروحات حول الثقافة واللغة والتعليم»، و»رهانات الفكر السوسيولوجي بالمغرب».