============================
قال جان بول سارتر في تقديمه لكتاب “معذبو الأرض” لفرانز فانون، “إن العنف الإستعماري لا يريد إخضاع هؤلاء البشر المستعبدين فحسب، وإنما يحاول أيضا تجريدهم من إنسانيتهم، إنه لن يدخر جهدا من أجل أن يقضي على تقاليدهم، وأن يحل لغتنا محل لغتهم، ومن أجل أن يهدم ثقافتهم دون أن يعطيهم ثقافتنا، وبالتالي فإننا سنرهقهم تعبا”. ص:25.
هذا “الإرهاق تعبا” الذي تحدث عنه سارتر، هو العنوان الملازم لقصةٍ تروي حياة مغربنا المسكين، منذ أن إحتل الجيش الفرنسي تحت قيادة ليوطي مدينة وجدة في 24 مارس 1907 إلى يوم الناس هذا.
فلا نشك أن الإحتلال الفرنسي قد إستطاع أن لا يخضع المغرب عسكريا فقط، بل حاول طيلة حكمه أن يجرد أهله من إنسانيتهم، وسامهم كل صنوف التعذيب والقتل والتشريد، نزع أملاك الناس بقوة السلاح، نهب الأموال وهتك الأعراض، أبطل العمل بالشريعة الإسلامية، وفرض قوانينه على رقاب المسلمين، ساقهم كرها إلى حروب من أجل فرنسا لا زالت المقابر الفرنسية تحتفظ بالآلاف من قبورهم مكتوب عليها بالفرنسية: “IL EST MORT POUR LA FRANCE”، “مات من أجل فرنسا”.
وكما مات أولئك من أجل فرنسا، عمل ساستها على أن يعيش من بقي من المغاربة حيا من أجل فرنسا أيضا، وذلك من خلال القضاء على تقاليدهم وإحلال لغة فرنسا محل لغتهم، من أجل هدم ثقافتهم دون أن يعطوهم ثقافة فرنسا، حسب تعبير سارتر.
فكما أننا على يقين من أن جيوشهم قد شدت أمتعتها ورحلت بعد حين من تاريخ الإستقلال، فإننا على يقين أيضا أن جيوشا أخرى لبثت في مكانها، تستكمل الشطر الأهم من عملية الإلحاق الحضاري، تقضي على ما تبقى من تقاليدنا، وتحل الفرنسية محل العربية، فكانت النتيجة حقا أن ثقافتنا هدمت دون أن نتمكن من إمتلاك ثقافة فرنسا، حتى إن عامة التلاميذ يدرسون الفرنسية 12 سنة وعندما يلجون الجامعة لا يستطيع الواحد منهم التحدث بها ولو لدقيقة، والعجيب أن الأمر نفسه بالنسبة للغة العربية، إنه الإرهاق والتعب.
ويشهد على إرهاق المغاربة وتعبهم ما يعرفه ملف التعريب منذ عقود مديدة من مهاترات تستهزئ بعقول المغاربة، لكنها تعطي الدليل على أن فرنسا قد خلفت وراءها من يحمي مصالحها ومشاريعها.
ولعل من أبرز ما يرهق المغاربة تعبا تغلغل المد الفرانكفوني، ولنأخذ ميدان الإعلانات التجارية كمؤشر يدل على قوته، حيث إستأثرت 13 جريدة ومجلة فرانكفونية بأكثر من نصف الإشهارات الموجهة للصحافة المكتوبة، بينما لم تحصل 89 جريدة ومجلة ناطقة بالعربية سوى على 49 في المائة.
ومن الشواهد الجلية على نفوذ الفرانكفونية القوي في المغرب ما تلعبه القناة الثانية من مسخ لثقافة المغاربة ولسانهم، بحيث يحسب المتابع أنها موجهة إلى الفرنسيين، لكثرة ما يغلب عليها من البرامج الناطقة بالفرنسية، بالإضافة إلى محتويات موادها التي تجنح نحو خدمة كل ما هو فرنسي، الأمر الذي يدل على أن المسألة ليست تلقائية، بل تندرج ضمن سياسة متبعة تحظى بالحماية الكاملة والدعم الكبير.
فلما قام وزير الاتصال وتجرأ على أن يمس النفوذ الفرانكفوني في القناة أزبد حماة مشروع الإلحاق الحضاري الفرنسي في المغرب وأرعدوا، حتى وصل الأمر إلى أعلى سلطة في البلاد، فطوي الملف بشكل أعطى رسالة قوية للذين يتناطحون حول ما إذا كان الربيع عربيا أم “ديمقراطيا”، تفهمهم بالواضح أن ربيع المغاربة لا زال فرنسيا، يحتاج إلى العمل الجاد من أجل مغربته ثم ننظر بعدها إن كان عربيا أم أمازيغيا، ديكتاتوريا أم “ديمقراطيا”.
فإذا ما استحضرنا الدور الذي تلعبه القناة الثانية، ووضعنا في الحساب دور التعليم الخاص الذي يعتمد في تربية وتعليم مئات الألوف من أبنائنا على مضامين مقرراتٍ فرنسية التأليف، فرنسية الثقافة، فرنسية الهوية، فرنسية اللغة، ثم أخذنا في الإعتبار عمل المئات من الجمعيات الفرنسية التي تؤطر المغاربة في مختلف الميادين، ناهيك عن عمل البعثة الثقافية الفرنسية ودعمها بالمال والجوائز لكل ما هو مغربي يخدم ثقافتها في بلادنا، دون أن ننسى عمليات التنصير التي تستهدف عقيدة أبنائنا، ودون أن نغفل قبل هذا وذاك عن النفوذ الكبير للرأسمال الفرنسي في المغرب، فإذا ما إستحضرنا هذا كله، علمنا حينها معنى قول الجنرال ليوطي في إحدى خطبه وهو في أوائل أيامه بالمغرب: “إن الشرط الأساسي لإستمرار إقامتنا في المغرب وخلود هذه الإقامة، هو تكثير روابطنا مع الأهالي، بالتعاون الزراعي والتعاون الصناعي، والإشتراك في الأعمال، وأسمى من هذه الأشياء كلها الاشتراك العقلي إشتراك الأفكار والقلوب”.إدريس كرم- إظهار الحقيقة وعلاج الخليقة / دراسة وإعداد.
المارشال ليوطي بزيه العسكري…
إن اشتراك الأفكار والقلوب بين المغاربة والفرنسيين هو الهدف الأسمى الذي تعمل في إطار تحقيقه جيوش الإلحاق الحضاري الفرنسي في المغرب والتي تتوزع إلى فيالق أربعة :
– فيلق الراسميل الفرنسي الذي ينخر الإقتصاد المغربي ويبقي على تبعيته للإقتصاد الفرنسي.
– فيلق الإعلام الفرانكفوني الذي يمسخ الهوية ويوجه النخب ويطبل لكل ما هو فرنسي.
– فيلق المنصرين والذي يحول عقيدة أبنائنا ويخلق أقلية نصرانية تدين بالولاء للغرب وخاصة لفرنسا.
– فيلق الجمعيات والمنظمات التي تشتغل في الميادين المختلفة خاصة منها التعليمية والثقافية والفنية والاجتماعية.
فوجود هاته الفيالق وما تتوفر عليه من نفوذ هو ما يضمن إستمرار الوجود الفرنسي في المغرب، ومتى إستطاع المغاربة دحر تلك الفيالق، عندئذ فقط؛ يمكن أن نقول إننا أحرزنا إستقلالنا بالفعل، فقد كتب أبوهم “فوكو” في مجلة العالَمَين في الأول من دجنبر 1924م: “إن مملكة فرنسا في غرب وشمال إفريقيا: الجزائر وتونس والمغرب الأقصى(…) إذا لم نعرف كيف نجعل هؤلاء الشعوب فرنسية، فسيخرجوننا من أرضهم”.
شارل دو فوكو…
ونحن بدورنا نقول: “إذا لم نخرجهم من أرضنا بالفعل، فسيتم الطمس الكامل لهوية المغاربة.
فليس من قبيل الصدفة إتفاق الفيلسوف سارتر الذي عمل في الجيش الفرنسي وخاض بعض حروبه، والمنصر الفرنسي فوكو الذي قطع على رجليه المغرب جاسوسا متسترا في زي راهب داعما للغزو، (1883-1884) مستبقا جيوش الإحتلال الفرنسي بسنوات، فقد كان ضابطا في الجيش الفرنسي، وكذلك العسكري الجنرال ليوطي مهندس الإحتلال الفرنسي في شمال إفريقيا الحالم دوما بإحياء أمجاد الإمبراطورية الرومانية، ليس من قبيل الصدفة إتفاقهم على وجود هذا المسخ الممنهج لهوية شعبنا وبلادنا، والذي نعتبر من ضحاياه أولئك المستغربين “المفرنسين” الذين لن يستنكفوا أن يطبلوا لفرنسا وفرانكفونيتها يوم 13 مارس من كل سنة المتزامن مع يوم عيدها السنوي.