اختيار زيلينسكي “رجل العام”.. لماذا نعتقد أنها “حركة كوميديّة” تُشَكِّل قمّة السّخرية؟ وهل سيكون مَصيره مِثل عرفات الذي فازَ بالتّكريم الأمريكي نفسه؟ وما هي الخطوة القادمة في الحرب الأوكرانيّة؟

Advertisement

عبد الباري عطوان
نُدرِك جيّدًا أنّ مجلّة “التّايم” الأمريكيّة الشّهيرة لن تختار الرئيس الصيني تشي جين بينغ الذي قادَ بلاده واقتِصادها إلى عرش زعامة العالم، وانتصر على فيروس الكورونا باتّباع سياسة “صِفر كوفيد 19” كرَجُلِ العام، ولا الرئيس البرازيلي لولا دي سيلفا “أبو الفُقراء” في بلاده الذي عادَ إلى السّلطة عبر صناديق الاقتِراع، ورُغمًا عن مُؤامرات واشنطن، وجيش فسادها من رجال الأعمال، ولهذا فإنّ من الطّبيعي أن تختار الرئيس الاوكراني فولوديمير زيلينسكي لكيّ يتَربّع على غِلافها فائِزًا بهذا اللّقب.
ففي الحيثيّات التبريريّة لهذا الاختِيار امتَدح رئيس تحرير المجلّة الرئيس الأوكراني الذي يقود مُقاومة شعبه “للغزو الروسي”، وإحياء روح أوكرانيا، ورفضه الفَرار من البلاد وظلّ مُتَمتْرِسًا في العاصمة كييف، وألقَى خِطابات في العديد من البرلمانات للتّحشيد لقضيّة أوكرانيا ودعم مُقاومتها “المَشروعة” للاحتِلال الروسي حسب ما جاء في افتتاحيّة رئيس التّحرير إدوارد فيلسنتال، ونَحنُ نَنْقُل هُنا حرفيًّا.
ربّما يجد هذا الخِيار “التّكريمي” الكثير من التّأييد في أوساطٍ عديدةٍ في العالم، وخاصَّةً الغربيّ مِنه، ولكنّنا نقف كعرب ومُسلمين في الخندق الآخَر، لأنّنا اكتَوينا من الحُروب الأمريكيّة، وتأييد زيلينسكي للعُدوان على غزّة، لأنّ هذا الرّجل كان، وما زال، دُميةً في يَدِ الولايات المتّحدة ورئيسها جو بايدن، وسيَدخُل التّاريخ لأنّه قادَ بلاده إلى حربٍ مُدمّرة، وضياع أكثر من خُمس أراضيها، وفي إطار مُؤامرةٍ أمريكيّةٍ لاستِنزاف الاتّحاد الروسي، وإسقاط نظامه عبر فرض عُقوبات اقتصاديّة قاسية وحربٍ عسكريّةٍ قد تتطوّر إلى حربٍ نوويّة.

زيلينسكي جرى انتِخابه رئيسًا عام 2019 بدَعمٍ أمريكيّ، وتحت عناوين مُضلّلة للحرب على الفساد، ووعود باجتِثاثه من جُذوره، وإيجاد حُلولٍ سَريعةٍ للصّراع في شرق أوكرانيا بين الجماعات النازيّة المُتطرّفة، والأوكرانيين من أُصولٍ روسيّة، وهو الصّراع الذي كلّف البِلاد أكثر من 14 ألف قتيل في بِضع سنوات مُعظمهم من الرّوس ولم يُنفّذ زيلينسكي أيّ من هذه الوعود، وكشفت “وثائق باندورا” تورّطه، وشبكة من رجال الأعمال المُقرّبين منه وشركاتهم في العديد من الصّفقات الماليّة المشبوهة، واستِثمارات في ملاذاتٍ ضريبيّةٍ آمنة، مُضافًا إلى تستّره على صفقات فساد قِيل إنّ ابن الرئيس بايدن مُتورّطٌ فيها، ومن ضِمنها إنشاء معامل بُيولوجيّة سريّة على الأراضي الأوكرانيّة تُنتِج الفيروسات القاتلة، وقد نفى زيلينسكي جميع هذه الاتّهامات، ورفض إجراء تحقيقٍ دقيق في ملفّاتها.
لا يُعيب زيلنينسكي كونه كوميدي ناجح في بلاده، ولكن ما يُعيبه هو جهله بالسّياسة، وقُبوله بدور الأداة التنفيذيّة للمُخطّطات الأمريكيّة التي قادت وتقود بلاده وأوروبا كلّها إلى الدّمار، بالطّريقة نفسها التي دمّرت من خِلالها الشّرق الأوسط ومناطق أُخرى من العالم، عندما ارتكب أكبر خطيئتين: الأولى، طلب الانضِمام إلى حِلف النّاتو، والاتّحاد الأوروبي، والثانية، انتِهاك مُعاهدة وإلغاء حِياد أوكرانيا والوقوف في خندق العداء لموسكو.
المُؤامرة على أوكرانيا بدأت عام 2012 عندما تسلّلت أجهزة المُخابرات الأمريكيّة إلى البِلاد، وجنّدت مِئات الآلاف من العُملاء والمُضلّلين للقِيام باحتجاجاتٍ غاضبةٍ للإطاحة بالرّئيس المُنتَخب فيكتور يانوكوفيتش الرّجل “الدّبلوماسي” الذي تقرّب من موسكو، وتجنّب الصّدام معها، ونحج هذا المُخطّط الذي يتكرّر مثيله حاليًّا في إيران، وقبلها في ليبيا وسورية، في تحقيق أهدافه، وإسقاط الرئيس يانوكوفيتش، وبَذْر بُذور مُؤامَرة تحريض أوكرانيا واستِخدامها مِصيَدةً للرّوس وجرّهم إلى الحرب.
الإعلام الغربي، ونتحدّث هُنا من تَجربةٍ تمتدّ لحواليّ ثلاثين عامًا وأكثر، يكون ديمقراطيًّا، ومُستَقِلًّا، ومهنيًّا عندما يتعلّق الأمر بقضايا داخليّة أو خارجيّة تنسجم مع استراتيجيّات الغرب ومُخطّطات “الدّولة العميقة”، ولكن يختلف الأمر كليًّا عِندما يحدث العكس، وشاهدنا ذلك بجَلاءٍ في حُروب أمريكا والغرب في أفغانستان، والعِراق وليبيا وسورية.
مجلّة “التّايم”، وعلى سبيل المِثال لا الحصر اختارت الرئيس بوتين كرَجُل العام، واحتلّ صدر غِلافها في كانون ثاني ديسمبر عام 2007 لأنّه أخرج روسيا من حالة الفوضى، وحقّق فيها الاستِقرار، ومن المُؤكّد أن رئاسة تحريرها في حينها تندم حاليًّا على هذا الاختِيار، لأنّها لم تكن تعرف خطط بوتين الحقيقيّة، ونواياه الدّفينة الثّأر من الهزيمةِ الكُبْرى التي ألحَقَها الغرب بالاتّحاد السوفييتي، وأدّت إلى تفكيكه.
ربّما يُفيد التّذكير أيضًا بأنّ المجلة نفسها اختارت الرئيس الفِلسطيني الراحل ياسر عرفات كرَجُل العام عندما “نبذ” العُنف وصدّق أُكذوبَة السّلام، وتنازل عن أكثر من 80 بالمِئة من أرض فِلسطين التاريخيّة، فماذا حصل للرئيس عرفات وكيف انتهى شهيدًا بالسُّمْ، وتبخّرت كُل “أحلام أوسلو” وجرى زرع أكثر من 800 ألف مُستَوطِن في الضفّة الغربيّة والقدس المُحتلّين.

هل سينتهي زيلينسكي النّهاية نفسها التي انتهى عليها الرئيس عرفات لرُضوخه للإملاءات الأمريكيّة وجَرّ بلاده إلى الدّمار مَفتوحُ الأعيُن؟ وهل سينفعه وبلاده وضع صُوره على غِلافِ مجلّة “التّايم”، في الوقتِ الذي يعترف مسؤول في وزارة الدّفاع الأمريكيّة بمقتل وإصابة 100 ألف جُندي أوكراني، وتهجير عشرة ملايين مُواطن بريء إلى دُوَلِ الجِوار، وانقِطاع الماء والكهرباء عن مُعظم المُدُن الأوكرانيّة بما فيها كييف العاصمة؟
مبروك لزيلينسكي هذا التّكريم “المسموم” وحمَى الله الشّعب الأوكراني الضحيّة مِنه، ومن أسياده الأمريكان، الذين لم يُضحّوا بجُندي أمريكي واحِد في الحرب حتى الآن، بل وباتوا يتربّحون منها ويُحقّقون مِئات المِليارات من الدّولارات من جرّاء ارتِفاع أسعار النفط والغاز، وصفقات الأسلحة للدّول المُنخَرِطَة في حرب أوكرانيا.

Advertisement
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.