يمثّل تصعيد الجزائر الأخير ضد فرنسا بسبب سفر الناشطة الجزائرية ـ الفرنسية أميرة بوراوي من تونس إلى فرنسا فصلا جديدا من فصول العلاقة الغريبة بين البلدين، حيث تختلط السياسات والمصالح والمشاعر والقضايا اختلاطا يطغى، أحيانا كثيرة، على الأحداث فيعقّدها مما يحوّل حقا بسيطا، مثل السفر إلى بلد آخر، إلى قضية «سيادية» وأزمة دبلوماسية، وتوتّر يطال بآثاره ثلاثة بلدان!
ابنة الجنرال الجزائري الراحل محمد الصالح بوراوي، هي طبيبة وحقوقية معروفة كانت تقدم برنامجا سياسيا منذ أيلول/سبتمبر الماضي، وشاركت في حركة «بركات» سنة 2014، وهي الجهة التي قادت حملة ضد الولاية الرابعة للرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة، واشتركت، في خضم بدء حركات الربيع العربي، مطلع عام 2011 بنشاط «التنسيقية الوطنية من أجل التغيير والديمقراطية» وتعرف عن نفسها بكونها «مواطنة ثارت من شدة الظلم واختراق القانون والدستور» وأنها «جزائرية عادية سبقتها في تاريخ بلادها إلى الثورة نساء بطلات كثيرات بينهن حسيبة بن بوعلي وجميلة بوحيرد» وقد سجنت بوراوي في العام 2020 وتواجه دعوى أخرى يمكن أن تحبس بسببها سنتين بسبب آراء نشرتها على صفحتها في فيسبوك اعتبرتها السلطات «إساءة للإسلام» فيما رأت الناشطة ما تقوم به السلطات ضدها «اعتداء على أبسط» حقوقها، إضافة إلى منعها من العمل و«مقاضاتها حتى بسبب النكات على فيسبوك».
سفر بوراوي تمّ عبر تونس التي أوقفتها سلطاتها في المطار ثم احتجزتها ثلاثة أيام، وبعد إطلاق المدعي العام التونسي سراحها اعتقلها أشخاص «بزي مدني» واقتادوها إلى مركز شرطة حدودي لترحيلها إلى الجزائر، وهو ما اعتبره محامياها، «محاولة خطف واحتجاز من جانب بعض سلطات إنفاذ القانون في تونس بناء على طلب السلطات الجزائرية».
حسب محامي الناشطة فرانسوا زيميراي، فقد «استنفرت الخارجية الفرنسية بشدة» لأن القانون الفرنسي يعتبر «الاعتقال التعسفي جريمة» وتم وضع الناشطة «تحت الحماية الفرنسية» لتتابع رحلتها إلى ليون، حيث يقيم ابنها.
رد الفعل الجزائري كان مرتفعا جدا بالمقاييس الدبلوماسية، كونه جاء من الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون شخصيا، الذي استدعى سفير بلاده في فرنسا «للتشاور» وأرسل مذكرة رسمية إلى فرنسا «تحتج بشدة على عملية الإجلاء السرية وغير القانونية» لمطلوبة من القضاء الجزائري.
لقضية بوراوي خلفيات أخرى، فرئيس تحرير «راديو إم» الذي عملت الناشطة فيه، هو إحسان القاضي، الموقوف على خلفية تهم أبرزها جمع تمويلات بشكل غير قانوني، ويدخل فيه، على ما يظهر، حدث اعتقال الصحافي مصطفى بن جامع، رئيس تحرير جريدة «لوبروفنسيال» وبن جامع وبوراوي، وكلاهما ممنوعان من السفر، وقد حاول عدة مرات، مثل بوراوي، مغادرة الجزائر عبر تونس.
يظهر الاعتقال الثاني لبوراوي في تونس، أولا، العلاقة «الوثيقة» بين السلطات الجزائرية وبعض أجهزة الأمن التونسية، التي تجاهلت قرار المدّعي العام إطلاق سراحها، وحاولت ترحيلها.
أما ربط بعض المحللين، الإقالة المفاجئة لعثمان الجرندي، وزير الخارجية التونسي، بقضية بوراوي، فيظهر أن الرئيس التونسي قيس سعيّد وجد في وزير خارجيته كبش فداء لصراع الإرادات الفرنسي ـ الجزائري، كما أن الحدث يكشف مقدار استخفاف سعيّد بمسؤوليه المقرّبين (سواء كان أحدهم وزير خارجية أم كان مدّعيا عاما) بحيث لا يبدو مضطرا لإعلان سبب الإقالة، أو سبب تجاوز قرار ممثل الادعاء العام.
ما تشير إليه القضية، في العمق، هو أن نظامي الجزائر وتونس ينفّذان عملية تفكيك متدرّجة لإنجازات الشعبين، وقواهما السياسية الحية، في مجال الحراكات السياسية والحقوقية والصحافية، وأن الانتقام من الصحافيين والناشطين والخصوم السياسيين هو عنوان المرحلة.
Advertisement
Advertisement