الدكتور طارق ليساوي: لماذا أرى أن الظرفية الدولية حبلى بالفرص.. لكن إقتناص الفرص يحتاج لحكومات فعالة ووطنية تخدم مصالح الوطن و المواطن.. و ليس خدمة مصالح الأوليغارشية المحلية و الدولية؟
أشرت في مقال “على خلفية تصريحات المندوب السامي للتخطيط : من له المصلحة في استمرار أخنوش و حكومته و مخططاته العجاف ؟ ” إلى أن غلاء الأسعار و التضخم الجامح في أسعار الخضر و غيرها من السلع الغذائية لا يمكن بأي حال من الأحوال الإستمرار في ربطه بالظرفية الدولية “الأزمة الروسية الأوكرانية” ، أو بالظرفية المناخية “ضعف التساقطات المطرية “، فالأزمة الروسية مستمرة و تم تجاوز حالة التضخم المرحلي الفاحش الذي شهدته الأسواق الدولية، فأسعار المحروقات و السلع الأساسية عادت للاستقرار في الأسواق الدولية ، كما أن المغرب شهد في الشهور الماضية تساقطات مطرية مهمة لكن رغم ذلك الأسعار تسير في اتجاهها التصاعدي ، و تستمر في صعودها ، و هو ما يعني أن الأزمة بنيوية، كما أنا الغلاء لا يمكن بأي حال ربطه بنذرة الخضر والفواكه واللحوم ، بدليل أن مؤشر الصادرات لازال مستقر، و السلع التي من المفروض ان تغدي السوق الداخلية يتم ترحيلها باتجاه الأسواق الإفريقية..وهو ما يعني أن الجشع والمضاربة والمصالح الخاصة للوبيات الفساد والريع التجاري تلعب دور أساسي في ارتفاع الأسعار و تجويع المغاربة، كما أن حكومة تضارب المصالح عاجزة عن إتخاذ إجراءات حاسمة و حازمة لإعادة الاستقرار و التوازن بين العرض و الطلب ، و ذلك أمر طبيعي فتضارب المصالح يمنع من اتخاد القرار المناسب .. و بلغة المقريزي فإن الفساد يزدهر عندما يكون المسؤول هو التاجر والفلاح والصانع والمتحكم في الإنتاج، وفي المغرب حكام اليوم يتحكمون حتى في الأكسجين….
و قد تابعت طيلة الفترة الماضية تصريحات أعضاء الحكومة، والتي أرى أنا مستفزة ومجانبة للصواب ولا تعبر عن الواقع، بل تخفي و تزيف الحقائق، كما تابعت تصريحات كل من والي بنك المغرب و المندوب السامي للتخطيط، و التي أرى فيها قدر كبير من الموضوعية و المسؤولية ، وهذا عنصر إيجابي يساعد في ترسيخ فصل السلط و تعزيز مبدأ المساءلة و المحاسبة ، فمن الإيجابي أن نجد بعض المؤسسات تحتفظ باستقلاليها في مواجهة الحكومة، و تحاول تقديم قراءة نقدية و رؤية مغايرة لما تدعيه الحكومة وأقطابها الخفية و الظاهرة ..
فقد كشف بلاغ لبنك المغرب صدر قبل أيام، عن استمرار ارتفاع نسبة التضخم، متوقعا استقراره في نسبة 5.5 في المائة في المتوسط، خلال سنة 2023، فيما سيبلغ مكونه الأساسي نسبة 6.2 في المائة، وذلك نتيجة الارتفاع الحاد في أسعار بعض المنتجات الغذائية.
وأكد البيان أيضا أن الشروع المبرمج في رفع دعم أسعار المنتجات المدرجة في صندوق المقاصة، سنة 2024، من شأنه أن يُبقي التضخم في مستوى مرتفع متنبئا ببلوغه نسبة 3.9 في المائة، مما دفعه إلى رفع سعر الفائدة الرئيسي إلى 3 في المائة، وذلك لتفادي حدوث دوامات تضخمية..
و بعيدا عن تصريحات والي بنك المغرب أو المندوب السامي للتخطيط، فإن المشكلة بالنسبة للغالبية الساحقة لا تكمن في الإشكاليات الاقتصادية الكبرى التي يقدمها هؤلاء -السياسيون و الاقتصاديون و الخبراء- كالظرفية الدولية، والتضخم، والإصدار النقدي المفرط، وانخفاض الإنتاج، وعجز الحساب الجاري للدولة، وارتفاع أسعار الطاقة وتكاليف الشحن، وغير ذلك من الظواهر الاقتصادية المعقدة التي يُعبِّر عنها أصحابها بلغة تقنية معقدة نسبيا..
و من المؤكد أن هذه العوامل لها تأثير على ما نعيشه من ارتفاع الأسعار، لكن أضيف أن الخلل ليس ظرفي وإنما بنيوي، و لا يقتصر على الجانب الاقتصادي و النقدي، و ليس له صلة فقط بالمتغيرات الكلية أو الجزئية ، و إنما يمتد لماهو أعمق و أكبر، و أعني طبيعة النظام السياسي و النموذج التنموي المتبع.. كما ينبغي الإشارة إلى أن ما يحدث هو من إرهاصات التعويم الجزئي للعملة المحلية، و إذا ما تم تبني تعويم كلي كما يدعو لذلك البنك الدولي و صندوق النقد الدولي فالكارثة ستكون أعمق و أكبر ..
فالمغرب يستورد اليوم أكثر مما يصدر، والفرق كبير بين قيمة الصادرات والواردات، و لتجاوز الفجوة بين الصادرات و الواردات ، ينبغي استقطاب استثمارات ضخمة بالعملة الصعبة أو تبني خيار الاستدانة من الخارج:
و أما خيار استقطاب استثمارات أجنبية فقد أشرنا في أكثر من مناسبة إلى أن مناخ الاستثمار تتخلله العديد من النواقص، كما أن البلاد تشهد هروب رؤوس أموال بالعملة الصعبة نحو الخارج تقدر بحوالي 8 مليار دولار سنويا ، و هذا عنصر مضر بعملية جذب الاستثمارات الأجنبية ..
و أما الاستدانة من الخارج فالمديونية العمومية بلغت حدا لا يحتمله الاقتصاد المغربي الهش، فقد بلغ مجموع الدين الخارجي ما يفوق 65 مليار دولار، و أمام هذا الوضع المركب و المعقد ، يصبح من الضروري الخضوع لإملاءات مؤسسات التمويل المحلية و الدولية ، و من ذلك ضرورة التعويم الكامل للعملة المحلية ، و إذا تم الخضوع لهذا الشرط فليس من المستغرب أن يصبح الدولار يساوي 20 درهما أو 25 درهما و يكفي استحضار التجربة المصرية و كيفية انهيار الجنيه المصري..
و في حالة حدوث هذا السيناريو فإن كل ما نستورده من الخارج سيتضاعف مرتين أو أكثر ، و ما كنا نستورده ب 1000 درهم ستصبح تكلفته 2000 أو 2500 درهم مما يعني أن القدرة الشرائية ستتدهور ويرتفع مستوى التضخم، مما يجعل الكثير من الدراهم غير كافي لإقتناء نصف الكمية – من سلع و خدمات- التي كان يتم الحصول عليها من قبل بنفس المبلغ ..
و تبعا لذلك، سينخفض مستوى العيش و سيزداد عدد الفقراء و المعدمين و تنهار الطبقة و الوسطى و تلتحق بالفقراء من خلال ضَعف القدرة الشرائية و انخفاض قيمة النقود. وهذا ما يريده البنك الدولي، أي ردع الاستهلاك وخفض الاستيراد، ووقف التوظيف، وعقلنة الأجور عبر تجميد المتوسطة والعليا والزيادة قليلا في رواتب الفقراء أو منحهم ” الدعم المباشر” و هذا ما يهدف له السجل الاجتماعي الموحد…
لذلك، أرى أن القادم لا يبشر بخير خاصة إذا تم الانسياق وراء توصيات البنك الدولي فتعويم العملة ستكون له تأثيرات مدمرة على الاقتصاد و الناس، و تشمل تأثيراته الأمن القومي والاستقرار السياسي، هذا بالإضافة إلى التضييق على الحريات المدنية و السياسية و هدر مزيد من الحقوق الاقتصادية و الاجتماعية ، فمن خلال الممارسة العملية، فإن أغلب الدول التي سعت للتحرير عملتها المحلية عملت على تعزيز قبضتها الأمنية و تعزيز السلطوية و الديكتاتورية و تبني سياسات صارمة لتكميم الأفواه و تقييد الحريات لمنع الاحتجاجات و الانتفاضات الشعبية و ثورة الجياع ..
و لتفادي هذا السيناريو الأسود، قد أشرت سابقا إلى خارطة طريق لتجاوز المخاطر الأنية و المستقبلية، و المدخل الذي لا مفر منه إقالة أخنوش و حكومته و تشكيل حكومة إنقاذ وطني ببرنامج سياسي و اقتصادي إصلاحي ينقد البلاد و العباد من السير نحو الهاوية ..
بل وأذهب إلى ضرورة الخروج من عباءة إقتصاد السوق المتحرر من القيود وضرورة اتخاذ تدابير عاجلة لاسترداد الأموال المنهوبة و المهربة للخارج، و التملص التدريجي من توصيات و أجندات المؤسسات المالية المانحة، خاصة و أن المتغيرات الدولية و صعود أقطاب جديدة يتيح لبلدان الهامش الفرصة للمناورة واقتناص الفرص شرط و جود إدارة سياسية فعالة و وطنية تبحث عن خدمة مصالح الوطن و المواطن و توسيع خياراتهما لا تضييقها لحساب أوليغارشية محلية و عابرة للحدود تحتكر المناصب و المكاسب …
فمن المؤكد أن توالي دورة الأزمات المالية و الصحية و البيئية يؤكد فشل النموذج الرأسمالي و إقتصاد السوق بغير قيود ، في تحقيق مات م الترويج له من رفاه اجتماعي، و توسيع لخيارات الناس الإقتصادية و الإجتماعية و بالأحرى السياسية، و أصبح من الواضح أن هذا النموذج المتطرف قاد إلى كوارث إجتماعية و إقتصادية و قلص من حريات و حقوق الأفراد و الجماعات ، و ما تبعناه من انهيارات مالية و تبخر لثروات طائله في الأزمة المالية للعام 2008 ، و ما خلفته أزمة كورونا التي لم تتجاوز أغلب البلدان تبعاتها الصحية و الاقتصادية و الاجتماعية ..فمن يعتقد أن الأمور ستعود لنصابها فهو واهم فالإنسانية تساق من قبل القلة نحو المجهول و لابديل عن صحوة الشعوب و تفعيل قانون الكم ، و لعل ما نراه من احتجاجات في العديد من البلدان و منها إحتجاجات فرنسا ستكون بوابة للتغيير ووقف أجندات العولمة المتوحشة و تقييد حركة الافتراس الاقتصادي…
فالبشرية تعيش في قلب أزمة مركبة و لحظة تاريخية فاصلة و معركة حاسمة ، معركة حياة أو موت .. فأزمة “كورونا” لم تكن بالأزمة العادية و الظرفية ، و إنما أزمة مركبة و ممتدة ، فأزمة “كورونا” بدأت كأزمة صحية ولكنها “تحورت” لتصبح أزمة اقتصادية بالأساس مع بلوغ الديون مستويات قياسية، وسط تحذيرات من المزيد من ارتفاع الديون بفعل الأزمة الأوكرانية وتداعياتها في المرحلة المقبلة.
و بحسب تقرير للبنك الدولي فقد بلغت الديون العالمية ما نسبته 353% من إجمالي الناتج المحلي العالمي ، و الأزمة لا تتعلق فقط بالديون الحكومية أو تلك التي تعرف بالديون السيادية، بل يمتد الأمر لتشمل القروض الشخصية وتلك الخاصة بالشركات والهيئات.
ويأتي النمو الكبير للغاية لديون الاقتصادات النامية والناشئة في صدارة العوامل المثيرة للقلق في أزمة الديون الحالية.. فهذه الاقتصادات تمثل حوالي 40 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وقبل أزمتي كورونا والحرب الأوكرانية كان العديد منها بالفعل يقف على أرض غير مستقرة في أعقاب عقد من ارتفاع الديون.
وأدت أزمة فيروس كورونا المستجد (كوفيد -19) إلى زيادة المديونية الإجمالية إلى أعلى مستوى لها في 50 عامًا وجعلت مستوى الديون الحكومية لتلك البلدان يعادل أكثر من 250% من الإيرادات الحكومية.
وما يقرب من 60% من أفقر البلدان كانت بالفعل تعاني ضائقة ديون أو معرضة بشدة لخطرها، وبلغت أعباء خدمة الدين في البلدان المتوسطة الدخل أعلى مستوياتها في 30 عاما، بما يجعل الكثير منها معرضا لمخاطر التخلف عن السداد ما لم يتمكن من التواصل مع الدائنين لإعادة جدولة الديون (والتي تتم بأعباء إضافية).
وتواجه هذه الدول أزمة تتعلق بتغير هيكل ديونها بشكل يجعل التخلف عن السداد صعبا ومُكلفا للغاية مقارنة بما اعتادته تلك الدول من قبل…فقبل ثلاثين عامًا كانت الاقتصادات النامية مدينة بمعظم ديونها الخارجية لحكومات دول أخرى أي إن الديون كانت بمثابة ديون ثنائية بين دولتين، وكان غالبية الدول المانحة للقروض أعضاء في نادي باريس الذي يوفر مظلة لإعادة التفاوض على شروط القروض ومد آجال السداد حال التعثر.
وفي 2022 فمن بين 53 مليار دولار تقريبًا ستحتاجها البلدان منخفضة الدخل لتسديد مدفوعات خدمة الديون على ديونها العامة والمضمونة من الحكومة، سيذهب 5 مليارات دولار فقط إلى دائني نادي باريس والبقية تذهب إلى دائنين آخرين أغلبيتهم استثماريون من حملة السندات والبنوك العملاقة وغيرهم.
علاوة على ذلك، فإن الكثير من ديون الاقتصادات النامية تم اقتراضه على أساس أسعار فائدة متغيرة وفقا لتغير أسعار الفائدة في البنوك المركزية المرجعية (أي التي تجعلها اتفاقية القرض مرجعية للفائدة المتغيرة) بما يجعل عبء خدمة القروض يزيد باستمرار في الوقت الحالي مع اتجاه عالمي لرفع أسعار الفائدة للسيطرة على التضخم.
و الجدير بالذكر في أزمة المديونية أن القروض الشخصية شهدت نفس التضخم و الارتفاع، و تقدر حول العالم بحوالي 55 تريليون دولار، و السبب في هذ التضخم راجع إلى انخفاض أسعار الفائدة خلال السنوات الماضية، و هو ما شجع الأفراد والشركات على الاقتراض منخفض الكلفة.
ولذلك يرى البعض أن رفع البنوك المركزية حول العالم لمعدلات الفائدة من شأنه أن يدعم الحد من شراهة الحصول على الديون التي وصلت لمستويات قياسية بالفعل، وهو أثر محتمل لأنه سيجعل الاقتراض أعلى كُلفة.
ولكن في الوقت نفسه سيعني هذا زيادة تكلفة خدمة الديون على الكثير من الدول بما قد يجعلها تعجز عن السداد لا سيما مع ارتفاع تكلفة الاقتراض، والذي اعتادت بعض الدول النامية التعامل معه بوصفه حلًا لتعثر سدادها عن ديون سابقة، بمعنى الاقتراض لسداد القروض السابقة.
لذا فإن الارتفاع المفاجئ والحاد في تكلفة الاقتراض قد يُعجل بظهور بلد أو أكثر يعجز عن سداد ديونه ويعلن ذلك، بما قد يُفجر أزمة الديون الرابعة خلال الخمسين عامًا الأخيرة والتي نُذكر بأن البنك الدولي نفسه يعتبرها “الأكبر والأوسع قاعدة” بما يجعل تداعياتها المتوقعة متناسبة مع حجمها الكبير.
و في الختام، أعتذر عن الإطالة لكن هذا المقال جعلته توطئة عامة لجملة مواضيع مركبة سوف نحاول تفصيلها في المقالات الموالية إن شاء الله تعالى..و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون..
إعلامي وأكاديمي متخصص في الاقتصاد الصيني والشرق آسيوي، أستاذ العلوم السياسية والسياسات العامة..