الدكتور طارق ليساوي.
أشرت في مقال ” على خلفية أغنية “مول الفز كيقفز “، إلى أن “بروفايل أخنوش” لا يصلح لإدارة تحديات و مخاطر المرحلة، و هذا الكلام قلته منذ انتخابات 2021 ..و قد قمت بتفنيد و نقد أطروحته في مقال كتبه السيد “عزيز أخنوش” تحت عنوان “المغرب الذي نريد بعد جائحة كورونا” و تم نشره ب “موقع لكم” يوم الإثنين 13 أبريل 2020، وعندما قمت بالرد على أطروحته، لم أنظر إليه على أنه كاتب رأي و أكاديمي، و إنما بإعتباره أحد المسؤوليين الأساسيين، عن وضع و تنفيذ السياسات العمومية في المغرب طيلة عقد و نيف، فالرجل وزير في قطاعات جد حيوية في المغرب و منها الفلاحة و الصيد البحري، و تولى المنصب منذ 2007 في حكومة “عباس الفاسي” و “عبد الله بنكيران” و “سعد الدين العثماني”، و هو المسؤول السياسي عن حادثة طحن المواطن المغربي “محسن فكري”، بصفته الوزير المسؤول عن قطاع الصيد البحري ، و قد قلنا ذلك في حينه…و ما يعيشه المغرب من تضخم أسعار المواد الغذائية يتحمل فيه السيد أخنوش قسطا كبيرا من المسؤولية فهو من أشرف على تنزيل “المخطط الأخضر” و هو أحد أهم الفاعلين في قطاع المحروقات التي ألهبت و استنزفت جيوب غالبية المغاربة …
لكن من الواجب التأكيد أيضا على أن أخنوش مجرد ” تقني منفد” و”تلميذ نجيب” و “تاجر مطيع” للماسكين بالسلطة الفعلية بالداخل ” المخزن” وبالخارج المؤسسات المالية الدولية و الشركات الأجنبية و صندوق النقد الدولي و البنك الدولي و الصناديق السيادية الخليجية، فالرجل ينفد أجندات سياسية ليس هو صاحبها و مهندسها، بل حتى رئاسة حزب الأحرار فهو لم يكن يوما من كوادره و عندما تقرر إعداده للقيام بدور سياسي، فقد تم وضعه على رأس هذا الحزب الذي أسسه “أحمد عصمان ” زوج أخت الملك الحسن الثاني..
و السيد أخنوش ” صديق الملك” و حزبه تصدر نتائج انتخابات 8 شتنبر2021، و بحكم هذه النتيجة التي تم تحقيقها عبر “صناديق الاقتراع” تم تعيين السيد “عزيز أخنوش” رئيس الحكومة، وتبعا لذلك ، كان من المرسوم و المخطط له، أن يكون هناك إنسجام و تناغم بين رأسي السلطة التنفيذية ، بل إني قلت في مقال نشر يوم 5 شتنبر 2021 بجريدة رأي اليوم اللندنية بعنوان ” من المؤكد أن أزمات المغرب الداخلية و الخارجية تقتضي تنزيل حزمة إصلاحات عاجلة، لكن السؤال من سيتولى مسؤولية الإشراف و التنفيذ؟ و أعتقد أن رئاسة الحكومة المقبلة لن تقررها نتائج الإنتخابات … “
قلت بالحرف ستشهد الفترة القادمة توجها بإتجاه تنزيل بعض الإصلاحات الاقتصادية و الإجتماعية، لأن الماسكين بالأمور يدركون أن المغرب على وشك الإنفجار فمن يحلل وضع المغرب منذ 2016 يلاحظ توالي دورة الاحتجاجات الشعبية و توسعها أفقيا و عموديا بدءا بحراك الريف مرورا بحراك جرادة و حراك الفنيدق و تطوان، فالمغرب برميل أزمات يحتاج لشرارة لينفجر…السلطة و القصر يدرك ذلك و لعل تركيز العاهل المغربي على ما أصبح يسمى بالميثاق الوطني من أجل التنمية أو النموذج التنموي الجديد، يدخل ضمن هذا الإدراك بأن الإستقرار و السلم الإجتماعي أصبح هش…
ومحاولة تلميع حزب الأحرار و أمينه العام السيد عزيز أخنوش و تعيينه رئيس حكومة، تفيد بأن إرادة الماسكين بالسلطة، تفضل أن تكون حزمة الإصلاحات التي تندرج في إطار الميثاق الوطني من أجل التنمية، تتم بأيادي مقربة من القصر و لتنسب الإنجازات للمؤسسة الملكية ، و ليس بأيادي ينظر إليها على أن لها أجندتها الخاصة و مشروعها السياسي الخاص .. و تحاول نسبة الإصلاحات لحزبها، و هو ما ظهر من خلال تصريحات سابقة للسيد بنكيران حول دعم الأرامل و إصلاح التقاعد و صندوق المقاصة…
وهذا التوجه قد تم إعتماده قبل انفجار حرار 20 فبراير 2011، ففي تلك الفترة كانت الجهود تتم على قدم و ساق لتقوية المولود الجديد حزب “البام” بزعامة صديق الملك…على كل لسنا ضد أن يتولى الملك مباشرة جهود التنمية، أو يعين شخصية تكنوقراطية أو شخص مقرب من القصر، لكن علينا بالمقابل أن نؤكد على أن من يتحمل المسؤولية عليه أن يخضع لسوط المحاسبة…
أيها السادة نبهنا منذ 2011 تاريخ انخراطي في الحراك السياسي بالمغرب إعلاميا و أكاديميا، بل وراودتني فكرة الترشح للبرلمان بعد حراك 20 فبراير 2011 لكن المنهجية التي تم اتباعها في وضع دستور 2011، دفعتني شخصيا إلى العزوف و الدعوة للمقاطعة.. فالمدخل الأول و الأساسي للتغيير السياسي ،يبدأ من نقطة القطيعة مع الدساتير الممنوحة، فالدستور ينبغي ان يكون تعبيرا عن إرادة الأمة عبر مجلس تأسيسي منتخب من قبل الشعب …
وعلينا الإقرار أيضا أن الديموقراطية الحقة و الفعلية في حاجة لأحزاب فاعلة و زعامات قوية، و إضعاف الأحزاب و تقزيمها و تجريف الزعامات و جعلها مجرد كراكيز تدار عن بعد ب Remote Control، يقود حتما إلى تدمير الفعل السياسي و يلوثه بالانتهازيين ، و يشكل سبب مباشر في عزوف الناخب المغربي عن التحزب و المشاركة السياسية، لأنه يدرك بأن هذه الأحزاب لا تملك من الأمر شيء، و تفصيل الفصل 47 من الدستور على مقاس السيد أخنوش، و إعادة تدوير حزب الأحرار الذي تم خلقه بإيعاز و دعم من السلطة و لأجل السلطة منذ 1978 ، هو عنوان لفشل السياسة و موت الزعامات السياسية في المغرب، لأن المراهنة في سنة 2021 على حزب الإدارة وصديق الملك كما يروج، تمهيد لإعادة تكرار سنوات برنامج إعادة التقويم الهيكلي السيء الذكر ..و المغرب اليوم رجع رسميا لسنوات التقويم الهيكلي و أصبح صندوق النقد الدولي و البنك الدولي السيد المطلق في تحديد السياسات العامة ..
أيها السادة ، المغرب أمام مفترق طرق و مقبل على مرحلة انتقالية تشبه إلى حد بعيد حقبة ما بين 1997 -1998 ، الدولة المغربية نظاما وشعبا بتقاليدهما السياسية العريقة المحكومة بقواعد الحكمة و التعقل، في حاجة ماسة لرجال دولة يجمعون و لا يفرقون، يوحدون و لا يقسمون ، المغرب في حاجة إلى إصلاحات جذرية تخرج البلاد من أزماتها الداخلية و الخارجية ،الظرف الذي تمر به البلاد و العباد لا يسمح بترف الجدال السياسي و التنابز بالألقاب و توزيع الوعود والأوهام…
أقول وبصدق شديد و للتاريخ و ليس لأي غرض في نفس يعقوب، و انا لست منتمي إلى أي طرف سياسي، منتمي للوطن و هاجسي هو تجنيب المغرب خطر الانزلاق لسيناريوهات دول الجوار الجغرافي، خريطة التقسيم و العنف ليست بعيدة عن جغرافية المغرب، أختلف مع السياسات المتبعة و أنتقدها بشدة، لكن في هذه المرحلة نحتاج للوحدة الوطنية، أوجه رسالتي للعاهل المغربي و لرجال الدولة العميقة ” المخزن” أنصتوا لنداء العقل و الحكمة، أخنوش غير مؤهل لقيادة المرحلة الرجل ليس له شعبية ، فهو لم يترشح أصلا للبرلمان، الأغلبية و الرتبة الأولى التي حققها حزبه نعلم جيدا مصدرها، فالرجل إستقطب مرشحين لأحزاب أخرى، و رشحهم باسم حزب الأحرار ، المال السياسي لعب دور كبير في التأثير على الناخب، من صوتوا للأحرار لم يصوتوا عن قناعة بل صوتوا لأنهم فقراء في حاجة لبعض الدريهمات..
رمزية أخنوش نابعة من كونه يمثل الأوليغارشية المالية و الاقتصادية والريعية في المغرب و سيطرتها على القرار السياسي و حملة “إرحل_أخنوش” تتجاوز منطق الاحتجاج على ارتفاع الأسعار، بل تعبر ضمنيا عن رفض احتكار التجارة و السلطة و الجمع بينهما، فأغلب أثرياء المغرب يمارسون السلطة السياسية، أو يرتبطون بأهل الحكم و السياسة، برابطة الدم و النسب و المصاهرة..
فالسلطة في المغرب أصبحت مصدر لتكديس الثروات، وتحقيق المكاسب المالية والتجارية العاجلة في غياب تام لمبدأ المحاسبة و المساءلة.. و الهبة الشعبية في 20 فبراير 2011 عبرت عن هذه المطالب بطريقة احتجاجية…
و كمتخصص في الاقتصاد و العلوم السياسية سوف أقتبس تقسيم تبناه عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر في كتابه “العِلم والسياسية بوصفها حرفة” إذ بين طريقتين يمكن بهما جعل السياسة حرفة:
الطريقة الأولى، إما أن يعيش المرءُ “لأجل” السياسة.. والطريقة الثانية، أن يعيش “مِن” السياسة. ..
والفرق يتعلق بالجانب الاقتصادي، فمَن يعتبر السياسة وظيفة يعتاش منها هو الذي يسعى إلى أن يجعل منها مصدر دخل دائم له. أما من يحيا من “أجل” السياسة فهو يجعل منها، بالمعنى الأعمق للكلمة، “هدف حياته”، فهو إما يلتذ بالسلطة التي يمارسها بمجرد امتلاكه لها، أو لأنها تؤمن له توازنه الداخلي أو تعبر عن قيمة شخصية، إذ يعني أنه قد جعل نفسه في خدمة قضية تعطي حياتَه معنى.
وعندما تكون قيادة دولة ما أو حزب ما بيد أناس يعيشون (بالمعنى الاقتصادي للكلمة) كليا من أجل السياسة وليس من السياسة، نكون أمام نموذج لنظام الحكم “البلوتوقراطي”: وهو النظام السياسي الذي تكون فيه الطبقات السياسية المسيطرة والماسكة بزمام السلطة طبقة الأغنياء وأصحاب الثروات. أو بتعبير أخر الحكم “الأوليغرشي”..و طبعا هذا النموذج لا يمكن وصفه بالحكم الديموقراطي لأنه حكم بيد الأقلية لا الأغلبية..
لكن هناك توصيف أخر ينطبق تماما على الأنظمة السياسية التي لم تنتج إلا الفقر و التخلف لشعوبها. لأن معايير الاحترافية السياسية في بلداننا هي العيش “مِن” السياسة، ولذلك تكون قدرة وقوة الأحزاب والزعامات السياسية في الاستحواذ والهيمنة على المال العام وموارد الدولة، و يوصف هذا النمط من الحكم ب “الكليبتوقراط” Kleptocracy ويعرف هذا المصطلح في الأدبيات السياسية بأنه :”النظام الذي يسمح بالفساد وسرقة المال العام والخاص من خلال تسهيل استغلال المناصب الإدارية والسياسية من قبل القائمين على مرافق الدولة، ويعبّر عن نظام حكم جوهره الفساد واللصوصية أو نهب الثروات العامة”..
للأسف المغرب يتجه نحو المجهول و من باب الأمانة ، فإن هذا الانحدار بدأ قبل تنصيب حكومة أخنوش، فبعد مرور نحو عقد و نيف على تبني دستور 2011 اتضح بأن الأمور زادت سوءا، و أن البرلمانات التي تعاقبت منذ ذلك الحين، ظلت مشلولة بل تم استخدامهما في مواقف لا نضالية تماما، منها إدانة حراك الريف، و الدفاع عن سياسات تكميم الأفواه و قمع الحريات ، أما الحكومات المتعاقبة الأولى برئاسة السيد “عبد الله بنكيران” والثانية برئاسة السيد “سعد الدين العثماني” و الحالية رئاسة السيد أخنوش لم تكون تعبيرا عن الإرادة الشعبية بتاتا، و كانت لعبة في يد الماسكين الفعليين بمفاتيح السلطة و الثروة في البلاد…
و في ظل هذا السياق العام المتأزم لابد من إزاحة أخنوش لأن الرجل غير مؤهل لإدارة المرحلة، خاصة و أنه مصدر لانقسام المغاربة، و البلاد في حاجة للوحدة و التكتل و تحقيق المصالحة بين الشعب و النظام السياسي، و السعي نحو صياغة عقد إجتماعي جديد أهم بنوذه :
أولا-ضرورة تحقيق مصالحة سياسية والاعتراف بأن الاحتجاجات السلمية التي عمت البلاد منذ حادث طحن محسن فكري، احتجاجات مشروعة و بأن المعالجة الأمنية الخاطئة فجرت الأوضاع و زادت من حدة تأزمها، و الاعتراف بأن نقطة البدء في أي انفراج سياسي هو الاعتراف بحرية الرأي و التعبير و الاحتجاج، و ضمان حرية الصحافة و حرية الرأي المعارض… فالركن الأساس في البناء الديموقراطي احترام حرية الرأي والتعبير، و تصفير السجون من معتقلي الاحتجاجات السلمية ورد الاعتبار لسلطة النقد و المساءلة.. وبعد ذلك لكل حادث حديث.. و “الحكم على الشيء فرع عن تصوره”..
ثانيا – بعد تحقيق هذا البند يمكن المرور لجوهر الموضوع، بمعنى الرجوع إلى مشكل ضعف الأداء التنموي و الفشل في تحقيق التنمية الفعلية، هذا الضعف التنموي هو السبب في اندلاع الاحتجاجات الشعبية الممتدة والمستمرة أفقيا و عموديا، هذا الضعف التنموي هو الذي أخرج “الزفزافي” و غيره للإحتجاج، ألم تكن مطالب حراك الحسيمة بناء مستشفى لعلاج السرطان و جامعة لتعليم الشباب و مصانع و مشاريع لتشغيل العاطلين…و تبين لنا بأن هذه المطالب هي نفسها التي تم الحديث عنها في أكثر من خطاب ملكي و في تقرير النموذج التنموي..
ثالثا- المدخل الطبيعي لحل هذه الأوضاع لا يتم عبر إجراء انتخابات مبكرة أو تعديل شكلي حكومي شكلي، و إنما بضرورة القطيعة مع النموذج المعتمد منذ الاستقلال في تدبير قضايا الوطن على المستوى المركزي و المحلي، و إبعاد الإدارة البيروقراطية و الأسلوب الأمني في تدبير قضايا التنمية …فمحاربة الفقر و خلق فرص الشغل لا تتحقق بإستعمال الهراوة و القبضة الأمنية، و لا تتحقق بالشعارات الانتخابية و الخطابات الخاضعة لمنطق البروباغندا و التسويق السياسي، و إنما بضرورة القيام بإصلاحات جذرية و جادة …والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون..
إعلامي و أكاديمي متخصص في الإقتصاد الصيني و الشرق ٱسيوي. أستاذ العلوم السياسية و السياسات العامة…