الدكتور طارق ليساوي
أشرت في مقال “رسالة القيادة الصينية لشعبها:” نرجو منكم إنجاب المزيد من الأطفال” الى أن التجربة التنموية الصينية الصاعدة أبطلت مفعول مجموعة من الخرافات التنموية، وأهمها خرافة الانفجار الديموغرافي.. ففي البلاد العربية غالبا ما يتم تكرار أسطوانة الانفجار السكاني وأن مستوى العرض من السلع و الخدمات العمومية يظل أقل من الطلب، وبدلا من إرجاع الفشل في إشباع الطلب على هذه السلع العمومية كالصحة والتعليم و النقل …إلى سوء الإدارة و التدبير يتم في الغالب إرجاع هذا القصور إلى النمو الديموغرافي، و ضعف الموارد و المتغيرات الدولية و التدخل الأجنبي، و قبل ذلك الاحتلال الأجنبي و الصهيوني لأرض فلسطين ، هذه اهم الشعارات التي نم رفعها منذ الخروج خمسينات القرن الماضي، و لازالت المنطقة تعيش نفس الإكراهات و الممارسات و تعاني ذات الويلات ، لا تنمية فعلية تحققت على أرض الواقع و لا خيارات تم توسيعها و لا أمن و استقرار تم تثبيته..
الحقيقة الوحيدة التي لا يطالها الشك و لا تحتاج للمزيد من المؤشرات الكمية أو النوعية لتأكيدها ، هو ان المنطقة طاردة لرؤوس الأموال و للكفاءات ، منطقة تعيش تحث وطأة إستبداد سياسي غاشم و فساد إداري و مالي و اقتصادي قاتل للفرص ، و مديونية داخلية و خارجية وصلت لمستويات قياسية و خضوع جارف لتوصيات مؤسسات التمويل و الإقراض الدولية ، و هو ما يترجم إلى سياسات عمومية غير رشيدة، تعمق من حجم الأزمات الاجتماعية و الاقتصادية و تعجز عن إيجاد حلول حقيقية و فعالة و عملية لإدارة دورة الأزمات ، و بدل من تبني إجراءات و تدابير منطقية من قبيل إسترداد الأموال العمومية المنهوبة و ترشيد النفقات العمومية و خلق مناخ استثماري جاذب لرؤوس الأموال و للكفاءات ، و تعزيز سلطة القانون ، يتم في مقابل ذلك التغاضي عن الفساد و عن ظاهرة زواج السلطة بالمال على وجه التحديد، و التسامح مع خرق القانون و استغلال النفود و المنصب لتحقيق مكاسب شخصية و فئوية ، و لتغطية العجز المالي يتم اللجوء لتمويل بالدين و فرض مزيد من الضرائب و الرسوم على المواطن و المستهلك و على المقاولات الصغرى و المتوسط و إرهاق كاهل هذه الأطراف بمزيد من الضرائب و الرسوم ، و هو ما يدفع العديد من المقاولات و المشاريع إلى التوقف و الإغلاق ..
ومن الظواهر الخطيرة التي تسجلها أغلب البلدان العربية ارتفاع مستوى الضغط الجبائي، و الذي اصبح يمثل أحد أهم العوامل التي تؤثر سلبا على الطاقة الشرائية للفرد و يؤدي الى عرقلة نمو الاستثمارات الاقتصادية الأمر الذي يترتب عنه تزايد مضر في معدل البطالة و تنامي العديد من العوامل الاجتماعية و الإقتصادية و المالية السلبية التي تؤثر سلبا في المنظومة الجبائية مما يجعل السياسة الضريبية يغلب عليها طابع المردودية المالية وغياب مبدأ العدالة الجبائية.
ad
إن هذا الحصار الضريبي للملزم المغربي و العربي هو ما يسمى في أدبيات العلوم المالية بالضغط الجبائي الذي يعتبر إحدى المميزات السلبية للنظام الجبائي في أغلب البلدان العربية و خاصة غير النفطية ، نظرا لأثاره السلبية على الفرد و الجماعات معا، الشيء الذي يجعلنا نتساءل عن ماهي أهم مظاهر الضغط الضريبي ؟ وماهي أسبابه؟
يمكن تعريف الضغط الجبائي بشكل مبسط، بكونه نسبة الاقتطاع الجبائي على الناتج الداخلي الخام، وهو ما ينتج عنه ما يمكن الاصطلاح على تسميته بـ “الضغط الجبائي الوطني”، لتمييزه عن “الضغط الجبائي الفردي” والمتمثل أساسا في نسبة الاقتطاع الضريبي الذي يخضع له الملزم إلى دخله الإجمالي السنوي (أي مقدرته التمويلية).
ويمكن قياس الضغط الجبائي في مختلف الدول ما على أساس نسبة الإقتطاع الضريبي إلى الدخل الوطني، وإما على أساس نسبة الاقتطاعات العامة التي تشكل موارد الدولة المختلفة، ولمعرفة حقيقة قياس حجم الضغط الوطني و الفردي يفترض مقارنته بذلك الموجود في دول اخرى سواء في الدول السائرة في طريق النمو أو في الدول المتقدمة، فقد أظهرت دراسة لصندوق النقد الدولي أجريت في وقت سابق ، و شملت 65 دولة نامية، توصلت إلى أن الضغط الضريبي في المغرب جد مرتفع مقارنة بالدول المتقدمة، فمثلا إسبانيا تتوفر على دخل وطني إجمالي يفوق بكثير الناتج الداخلي الإجمالي بالمغرب، وعلى دخل فردي متوسط يتجاوز خمس مرات متوسط الدخل الفردي المغربي و بذلك فإن نسبة الضغط الجبائي الوطني لا يتجاوز16% من الناتج الداخلي الخام، كما لا يتجاوز معدل الضغط الضريبي الفردي نسبة 24%.
ومن ضمن العناصر المساهمة في الضغط الجبائي ضعف العدالة الضريبية ، فمن الملاحظ مثلا : ان النظام الضريبي المغربي يتكون من ثلاث أنواع من الملزمين بالضريبة، فالفئة الأولى تخضع لتضريب ضعيف و هي مرتبطة بالقطاع الفلاحي، أما الفئة الثانية فهي تختار ما يناسبها من اداء الضرائب فقط، وهي مرتبطة بالقطاع العقاري، أما الفئة الثالثة فهي تؤدي نيابة عن الآخرين و تتحمل عبء الجبايات و تتمثل أساسا في فئة الملزمين المكونة من الطبقات الفقيرة و المتوسطة فهذه الفئة الأخيرة هي التي تشكل القاعدة الواسعة للجبايات بالمغرب، بحيث تتحمل أكثر من 20 ضريبة ورسم مباشر وغير مباشر، و 16 رسم مشابه و أكثر من 30 رسم محلي، بمعنى أن هده الفئة تستحمل أكثر من 70 رسم والضريبة
كما أن ارتفاع الضغط الضريبي له صلة مباشرة بتزايد نسبة النفقات العمومية ضمن بنية الميزانية العامة للدولة، وما دامت الضرائب تعد أهم وسيلة لتمويل الخزينة، فإن ارتفاع الضغط الضريبي يبدو أمرا حتميا، إلا أن هذا لا يفسر وحده هذه الظاهرة، و بالتأكيد هناك أسباب أخرى منها الازدواجية على المستوى الاقتصادي، فالمغرب كباقي البلدان العربية يتميز بتواجد قطاع منظم و أخر غير منظم، و الضغط الجبائي و ارتفاع حدة المنافسة الأجنبية و ضعف السوق المحلية و صعوبة الولوج لقنوات التمويل و الابتكار تدفع جزء من القطاع المنظم إلى الانتقال للقطاع غير المنظم ..هذا إلى جانب الهندسة غير الدقيقة للإعفاءات و الامتيازات الضريبية التي تمنح لاعتبارات غير لاقتصادية بالضرورة، و تتدخل فيها اعتبارات من قبيل موازين القوة و استغلال النفوذ و القرب من السلطة و تفشي الفساد و المحسوبية و ضعف سلطة إنفاد القانون و المراقبة ..
و من المؤكد، أن أغلب البلدان العربية ستشهد موجة مديونية و تعويم للعملة المحلية و انهيار اقتصادي و قلاقل اجتماعية ، لذلك أرى أن القادم أسوأ ، و مبكل تأكيد الشعوب تتحمل جزء من المسؤولية، لأن صمتها نوع من المشاركة في عملية الافساد و ديمومة السياسات الفاشلة ، خاصة و أن السياسات المتبعة التي يتم تنفيذها ماهي إلا تنفيذ عشوائي لتوصيات و شروط صندوق النقد الدولي و المؤسسات المانحة، التي تهدف عبر توصياتها و سياستها إلى إستدامة الفقر و إغراق الأوطان في المديونية و القلاقل الاجتماعية بداخل الأوطان، و عدم تحرير الطاقات البشرية و توسيع خيارات، التي تتطلب تبني سياسات اقتصادية و اجتماعية مغايرة تماما لما هو سائد …
و أنا أحلل واقع المغرب، و بالطبع واقع اغلب البلدان العربية تحضرني مقولة لجورج أورويل: ” الشعب الذي ينتخب الفاسدين و الإنتهازيين و المحتالين و النهابين و الخونة لا يعتبر ضحية بل شريكا في الجريمة” ..
و يذكر القراء الافاضل مقالاتي التي كتبتها برأي اليوم قبل و بعد انتخابات 8 شتنبر 2021، و التي حاولت من خلالها التنبيه للمخاطر المستقبلية التي تواجه البلاد و العباد، التي نبهت من خلالها إلى أن السيد أخنوش و حزبه و تحالفه لا يملك الكفاءة و القدرة لإدارة البلاد و حل أزماتها البنيوية، و قد دعوت المغاربة في حينه، إلى مقاطعة الانتخابات تصويتا و ترشحا، لأن وضع البلاد الاقتصادي و الإجتماعي و السياسي ، يقتضي تبني منهج مغاير، و قد أشرت في مقال “الانتخابات المغربية رموز وقشور.. واستمرار في هدر الموارد و الفرص..” إلى أن المغرب أمام منعطف تاريخي خطير؛ و ردة حقوقية وتراجع عن المكتسبات التي إعترفت بها الدولة المغربية بعد حراك 2011، و تدهور إقتصادي و أزمة إقتصادية خانقة مؤشراتها ارتفاع نسب البطالة و الفقر ، و يكفي كمؤشر لوضع المغرب إقدام الشباب المغربي على ركوب قوارب الموت هروبا من بلاده و مشهد سبتة ليس ببعيد عن الأذهان..
و بعد مرور ما يقارب السنتين على تنصيب حكومة أخنوش ، لست في حاجة لجرد المؤشرات الكمية و النوعية لتدليل على فشل التدبير الحكومي لدورة الأزمات التي شهدتها البلاد طيلة الفترة الماضية، لكن مع ذلك فإن السيد رئيس الحكومة المحترم له رأي مخالف تماما، و يرى ان ما حققته حكومته خلال سنة لم تستطع حكومات أخرى تحقيقه في 10 سنوات ..
و هو محق في ما يقول فلم يشهد المغرب طيلة ثلاث عقود و نيف مثل هذا الإرتفاع الصاروخي في معدلات الفقر و التضخم و سوء توزيع الثروة الوطنية ، و إفلاس الشركات، و تزايد وثيرة السخط الشعبي الذي ينذر لا محالة بثورة جياع ، و هذا ما نخشاه حقا و نأمل تفاديه ..لكن للأسف كما يقال الواقع لا يرتفع ، و التغيير يتطلب إصلاحات جادة و قرارات حاسمة و رجال دولة يقدرون الأمور حق قدرها، أما الاستمرار في سياسات التسويق و الواجهة و الماكياج و البروباغندا الصفراء، و إطلاق تصريحات لا تنسجم مع واقع الأمور ففي ذلك دفع البلاد نحو الهاوية ..
فقطاع واسع ممن يصرخون اليوم و يحترقون بجمر الغلاء و أصبح الجوع يستوطن بطونهم و يقد مضاجعهم ، كثير منهم ساهموا في ما نراه اليوم من إنحدار خطير ، من خلال مشاركتهم في انتخابات 8 شتنبر ترشحا و تصويتا و محركهم في ذلك تغيير أوضاعهم ، و لكن ما بني على باطل فهو باطل ..قطاع واسع من الشعب يتحمل المسؤولية.. و لتغيير الأوضاع ينبغي ان يدرك الشعب دوره و رسالته و ينسلخ الناس عن أنانيتهم و يدركوا أن لا مناص من تغيير جماعي و تفعيل لقانون الكم، فعندما تتحرك الأغلبية فإنها ستحدث التغيير، لابد من موقف شعبي عاقل و مسؤول و جاد لإنقاذ سفينة الوطن و قطع دابر المفسدين في الأرض ..
ولتوضيح الصورة سأستحضر تجربة ماليزيا، أذكر أن محمد مهاتير باني نهضة ماليزيا، قبل توليه السلطة بنحو 11 عاما أصدر كتابا في العام 1970 باسم “معضلة الملايو”، انتقد فيه بشده شعب الملايو واتهمهم بالكسل والرضا بأن تستمر بلادهم دولة زراعية متخلفة دون محاولة تطويرها، فقرر الحزب الحاكم حينها والذي يحمل اسم “منظمة الملايو القومية المتحدة” منع الكتاب من التداول رسميا نظرا للآراء العنيفة التي تضمنها…
لكن هذا الإنتقاد والمكاشفة جعل الشعب الماليزي يغير سلوكه، و أصبح مهاتير رمز للدولة و أب للشعب بكل أطيافه، وإستمر في السلطة نحو 22 سنة، إذ تولى رئاسة الوزراء منذ (1981- 2003)، و إنسحب من السلطة وهو في أوج عطاءه. وقد نجح في نقل ماليزيا من دولة زراعية “مهملة” تعتمد على زراعة الموز والمطاط إلى مصاف الدول الصناعية المتقدمة، وزاد دخل الفرد السنوي من ألف دولار إلى 16 ألف دولار، وارتفع حجم الاحتياطي النقدي من 3 مليارات دولار إلى 98 مليار دولار، وقفز حجم الصادرات من نحو 15 مليار دولار إلى 200 مليار دولار.
عندما تفشى الفساد في البلاد قررت جموع المواطنين الإحتجاج أمام بيت مهاتير لتخرجه من وتقاعده السياسي وهو في سن 93 سنة، تعيده لحكم مجددا بعد فوز ائتلافه المعارض في الانتخابات البرلمانية، ليصبح أكبر سياسي منتخب في العالم، وأدى مهاتير محمد يوم الخميس 10 مايو 2018 اليمين القانونية رئيسا للوزراء، ليتسلم السلطة قبل نحو عامين من انتهاء خطة “2020” التي كان قد وضعها خلال فترة حكمه للبلاد، والتي بموجبها ستصبح ماليزيا بموجبها رابع قوة اقتصادية في آسيا بعد الصين، واليابان، والهند.
وخلال الـ 22 عاما التي تولى فيها مهاتير محمد رئاسة الوزراء (1981- 2003)، نجح في نقل ماليزيا من دولة زراعية “مهملة” تعتمد على زراعة الموز والمطاط إلى مصاف الدول الصناعية المتقدمة، وزاد دخل الفرد السنوي من ألف دولار إلى 16 ألف دولار، وارتفع حجم الاحتياطي النقدي من 3 مليارات دولار إلى 98 مليار دولار، وقفز حجم الصادرات من نحو 15 مليار دولار إلى 200 مليار دولار.
عودته السلطة مجددا في 2018، تمحورت حول مكافحة الفساد وقد نجح في أقل من 10 أيام من إسترداد أغلب الأموال المنهوبة ومحاسبة الجناة وقبل عودته لتقاعده سن تشريعات تمنع الفساد و المفسدين…
فصمت الشعوب العربية على الرغم من شيوع الفساد و الاستبداد، يدعونا حقيقة إلى ضرورة تحليل سيكولوجية هذه الشعوب و لما هي متعاطفة مع الفساد و متسامحة جدا مع المفسدين؟ لماذا عندما يرغب المرء في إصلاح صنبور في بيته أو مصباح كهربائي يبحث عن أفضل الصناع و الحرفيين ؟ و حينما يتعلق الأمر بإدارة مستقبله و مستقبل أبناءه و أحفاده يختار الأقل كفاءة و أمانة و دراية؟ أسئلة لم اجد لها إجابة و كم أود أن أجد لها جواب شافي و كافي ..والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون …
إعلامي وأكاديمي متخصص في الإقتصاد الصيني والشرق آسيوي، أستاذ العلوم السياسية والسياسات العامة..
Advertisement
Advertisement