لم يعد الحديث الذي إنتشر في دوائر الإعلام والسياسة العربية المعارضة عن “الثورة المضادة” كافيا لتفسير ما ترزح تحته الشعوب العربية من قمع وإستبداد، فالإنتفاضات التي شهدتها الشعوب العربية في 2011 لم تكن وليدة اللحظة.
بل كانت نتاج ضغوط أقدم وأعمق بكثير، كما أنها ووجهت بقوى راسخة شديدة الرجعية والقمع والتوحش، ما زالت تعمل على سحقها بكل قوة وعنف.
قبل الثورات، كان العالم العربي منقسما بين محورين :
– المحورالأول … قدم نفسه للجماهير العربية تكتلا للنظم والقوى المعارضة للسياسات الأميركية في المنطقة.
– المحور الثاني … ضم القوى الحليفة للولايات المتحدة والداعمة لسياساتها على طول الخط.
لكن الثورات العربية أثبتت هشاشة هذا التقسيم الذي إستمر طويلا، ففي النهاية لم يختلف رد فعل النظام السوري الممانع وحليفه الإيراني المقاوم عن رد فعل النظام المصري وحليفيه السعودي والإماراتي الموالييْن لأميركا.
فقد إتفق الطرفان، من دون تنسيق مسبق، على حرمان الشعوب العربية من حقها في الحرية والديمقراطية، وسحق المعارضة بكل قوة وعنف، وعلى بناء نظم أمنيةٍ غاشمةٍ لا تخضع لرقيب، وعلى شن حروبٍ نفسيةٍ لا تتوقف ضد شعوب المنطقة، بهدف تشويه المعارضة من ناحية، وإخضاع الشعوب والقضاء على آمالها في التغيير من ناحية أخرى.
اتفق الطرفان كذلك على التحالف مع أكثر القوى عداءً للديمقراطية والحريات وحقوق الشعوب في الخارج، مثل بوتين وترامب، وقوى اليمين الغربي المتطرّف، وإسرائيل التي إحتضنت الثورات المضادة في مختلف بقاع العالم العربي، بما في ذلك سورية.
كما إتفقا على تصدير كل التفسيرات الواهية لشرعيتهما، فتلك الأنظمة موجودة لتحكم بالحديد والنار شعوبا عاجزةً عن حكم أنفسها. شعوب غير مستعدة للديمقراطية (ولن تكون).
والسبب، كما تصدره تلك الأنظمة، هو التطرّف الديني والثقافة العربية والإسلامية الرجعية التي تنتشر في المجتمعات العربية، فالنظم تحكم لأن شعوبها مليئة بالتطرّف وبالمعادين للغرب والشرق والأقليات وإسرائيل.
في حين تقدّم النظم أنفسها حامية للثقافة والفنون والأقليات ودولة الإحتلال ، وهو حديثٌ مضلل، يتلاعب بالحقائق، ويخفي وراءه حقيقة تلك النظم وطبيعة تحالفاتها الداخلية والخارجية.
فالإعلام الرسمي الذي تديره المخابرات والأجهزة الأمنية الأخرى يتحدث عن الفنون والموسيقى والآداب من ناحية، ويبرّر أبشع جرائم حقوق الإنسان والإختفاء القسري والتعذيب التي تمارسها الأجهزة نفسها من ناحيةٍ أخرى.
تتفاخر الأنظمة في حديثها مع الخارج بعلاقتها الحميمة مع إسرائيل، لكنها تنشر في الداخل العداء لإسرائيل والسامية والغرب والشرق جميعا مدّعية تآمر العالم كله ضدها.
تتشدّق بالحديث عن حقوق الأقليات والتسامح، ولكنها تعامل الأقليات كما تعامل بقية شعبها ، تعاملهم كأنهم عبيد ليس لهم حقوق خارج ما يتكرّم به الحاكم من عطايا وإحسان ، وتبرّر، من خلال إعلامها الرسمي وأجهزتها الأمنية، جرائمها ضد الأقليات ، ولعل ما حدث في مذبحة ماسبيرو في أكتوبر/ تشرين الأول 2011 في مصر خير مثال.
حتى القوى الدينية الأكثر عنفا وتشددا هي نتاج لقوى الإستبداد الحاكمة نفسها، فالسعودية دعمت لعقود أكثر الجماعات الدينية تشدّدا.
وإستخدمت الحكومة المصرية السلفيين سنوات طويلة لتقويض نفوذ “الإخوان المسلمين” في الطبقات الفقيرة والمتوسطة ، لذلك إنكشف بعد انقلاب 2013 مدى التقارب بين النظام المصري وبعض أهم شيوخ السلفيين.
أما النظام السوري، فقد دعم حركة الجماعات الدينية العنيفة عبر الحدود العراقية بعد غزو العراق (2013) ، وبعد ثورة الشعب السوري السلمية في 2011، أطلق من سجونه بعض أكثر قيادات تلك الجماعات خطورة وتشدّدا، وسرعان ما أصبح بعض هؤلاء قادة أكثر الجماعات المسلحة السورية عنفا وتشدّدا، ما ساهم في تشويه صورة الثورة السورية وشق صفوفها، ومن ثم هزيمتها.
ولا يتوقف الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، والذي قاد إنقلابا عسكريا دمويا ضد ثورة ينايرالعظيمة ونشطائها السلميين، عن تذكير العالم بأسباب وجود نظامه وضرورة دعمه، وهي قمعه الجماعات الإرهابية، ومواجهته الجماعات المشدّدة دينيا، وتوثيق علاقة بلاده بإسرائيل.
وهي أسبابٌ واهية، فيما عدا موضوع إسرائيل ، لذا لم يستطع السيسي مواجهة البرنامج الإعلامي الدولي الوحيد (برنامج 60 دقيقة) الذي تحدث معه بحرية عن الجرائم الحقوقية التي إرتكبها منذ صعوده إلى السلطة ، لذلك سعى السيسي إلى منع إذاعة المقابلة، وفشل في ذلك متسببا في فضيحة إعلامية دولية لنظامه.
في السعودية، سعى ولي العهد، محمد بن سلمان، إلى صناعة صورة حديثة لنفسه محرّرا للمرأة وناشرا للترفيه والثقافة ومحدثا للإقتصاد، مستخدما في ذلك نفوذ بلاده المالي الضخم، وعلاقاتها بلوبيات السلاح وإسرائيل.
لكن صورة بن سلمان إنهارت، عندما أقدم بعض أكبر مساعديه وأكثرهم قربا منه على ذبح صحافي معارض في قنصلية بلاده في إسطنبول، وتقطيع جسده، وربما تذويبه بالأحماض الكيميائية. وما زال العالم يسعى إلى التحقيق في الجريمة، في ظل توفر أدلةٍ كثيرة بشأن ضلوع بن سلمان نفسه فيها.
أما النظام الإماراتي، والذي يعين وزراء للسعادة ويطلق أعواما للتسامح، فيدعم جماعاتٍ أصولية عنيفة، وأخرى إنفصالية، في اليمن، ويستخدمها ، كما دعم الإنقلاب العسكري في مصر، ويدعم إنقلابا مشابها فاشلا في ليبيا، وسارع إلى فتح سفارته في دمشق ، وباتت القوى الديمقراطية تخشى حلفاءه وأنصاره أينما حلوا.
ويمتلك هؤلاء جميعا حليفا قويا في إسرائيل المحتلة، والتي يسيطر عليها أكثر حكوماتها اليمينية تطرّفا. حكومة نقل السفارة الأميركية إلى القدس، وقانون هوية الدولة الإسرائيلية ، وهي الحكومة نفسها التي تدافع عن السيسي وبن سلمان ومحمد بن زايد وبشار الأسد.
ويتحالفون أيضا مع أكثر القوى عداءً للعرب والمسلمين في الغرب، ومنها قوى المسيحيين الأصوليين المتشدّدين والشعبويين في أميركا واليمين المتطرّف المعادي للمهاجرين في أوروبا ، وينظر هؤلاء بعنصريةٍ إلى العرب وحكامهم، فالعرب بالنسبة لهم شعوبٌ متطرّفة لا تستحق الديمقراطية والحريات.
أما الأنظمة فهي مجرّد أتباع للغرب، يدينون له بالولاء في مقابل الحماية ، ولا يختلفون كثيرا عن الحكام الذين عينتهم ودعمتهم الإمبراطوريات الغربية خلال عصر الإستعمار.
وللأسف، تتماشى، وربما تتطابق، تلك الأفكار مع الصورة التي ترغب الأنظمة الإستبدادية في ترويجها عن أنفسها في الخارج والداخل، فهي ترحب بتحالف الخارج معها، وتسليحه لها ودفاعه عنها في مواجهة شعوبها وبعضها في المنطقة.
وترحب كذلك بتصوير شعوبها مجموعات من الهمج والرعاع والمتطرفين الذين لا يستحقون حكم أنفسهم، بل وتسعى إلى ترويج تلك الصورة داخليا وخارجيا من خلال إعلامها الرسمي.
ولا تتوقف تلك الأنظمة القمعية عن تجميل أنفسها ببعض المساحيق، كحفلات الموسيقى، وإفتتاح دور السينما والمسارح، وربما دور عبادة الأقليات ، ولهذا الغرض، توظف جيشا عرمرما من الفنانين والمثقفين ورجال الدين المستعدين للمشاركة مدفوعة الأجر في تلك المسرحيات الهزلية، والتغنّي بتسامح الحكام ونظامه، والدفاع في الوقت نفسه عن أكثر ممارسات النظام عنفا وتوحشا وبربرية.
في النهاية، تجد القوى المدافعة عن الحرية والحقوق والعدالة والمساواة والديمقراطية في العالم العربي نفسها أمام تحالفٍ ظلاميٍّ هائل ومسيطر، يتشكل من النخب الحاكمة ومؤسساتها الأمنية ونخبها الإقتصادية الفاسدة وإسرائيل وقوى اليمين المتطرّف وقوى الإستبداد الدولية.
وهو تحالفٌ أقدم وأعمق من الثورات المضادة بكثير، تحالف ظلامي عنيف ومتوحش، يحاول إبقاء الشعوب العربية إلى الأبد تحت نير الإحتلال والإستبداد.