الدكتور طارق ليساوي
حاولت في ختام مقال “لماذا أرى أن حكومة أخنوش اختبار عملي لنمط الحكم «الكليبتوقراطي”؟” أن أضع تصور او خارطة طريق لتجاوز الأزمة الحالية التي يشهدها المغرب، فمن يعتقد ان الخروج من عنق الأزمة الاقتصادية و الاجتماعية سيتم بنفس السياسات و المنهجيات السائدة، فإنه إما واهم أو حالم أو يسعى لتفجير الوضع لغاية في نفس يعقوب، فطبيعة التحولات و الارتدادات التي يشهدها الوضع الداخلي، و موجة التضخم و الغلاء الناجم عن زواج السلطان بالمال و سيادة إقتصاد “الهمزة” عمق من تأثيرات الظرفية الدولية…تدفعنا باتجاه التنبيه إلى أن دوام الحال من المحال و التغيير الجاد أصبح ضرورة حتمية و لا أرى حلا في المرحلة القادمة إلا تفعيل قانون الكم ، وخروج الأغلبية الصامتة من صمتها و سلبيتها لإعادة التوازن ..و إعادة صياغة عقد إجتماعي جديد ، يخرج البلاد و العباد من سيادة النمط “الكليبتوقراطي” ووضع حد لزواج السلطان بالتجارة ..
و قد سبق لي أن عبرت عن عدم تفاؤلي بمجريات الأحداث ، و منبع هذا الموقف جملة من المؤشرات التي تفيد بأن البلاد تتجه نحو الهاوية ، فالبلاد منذ حراك الريف 2016 و هي تعيش في قلب أزمات داخلية و خارجية ، بدأت بالبلوكاج الحكومي الشهير و الذي قاده السيد أخنوش ، و طحن محسن فكري في حاوية لنقل الأزبال، و الذي يتحمل فيه المسؤولية السياسية السيد أخنوش بصفته وزير الصيد البحري، و عندما فاز حزبه و تم تنصيبه رئيسا للحكومة شهد المغرب حدثا دوليا تابعه العالم ” حادث الطفل ريان” كما شهدت البلاد شح شديد في الأمطار ، و ارتفاع مهول في الأسعار لم تشهده البلاد منذ نحو عقدين ..
بصدق شديد لا أعلم لما في كل أزمة شهدتها البلاد في هذه الفترة إلا و تجد من خلفها هذا الرجل ” أخنوش” ، هل هو سوء الطالع أم انعدام التوفيق، فمن المؤكد أن الرجل يحالفه “التوفيق” و يصاحبه “السعد” عندما يتعلق الأمر بتضخيم ثروته الشخصية التي تضاعفت في عز أزمة جائحة كورونا، لكن في إدارته للشأن العام يفتقد لهذا “السعد”، بل يشبه في ممارساته الاحتكارية “جراد الصحراء” الذي يأكل الأخضر و اليابس..
و الغريب في الأمر أن حكومة أخنوش لم يحالفها السعد و خاصمها التوفيق ، فمع شهر شتنبر 2021 إرتفعت الأسعار و وصلت إلى حدها الأقصى مع بداية الحرب الروسية الأوكرانية، و تزامنت موجة التضخم مع مرور البلاد بأسوأ موجة جفاف ضربت البلاد منذ 30 عاما، حيث تراجع معدل التساقطات المطرية بواقع 64 في المائة مقارنة بالسنوات السابقة، ما دفع الكثيرين إلى التساؤل حول حصيلة مخطط “المغرب الأخضر”، الذي انطلق فعليا عام 2008 ورصدت له ميزانية 43 مليار درهم من الدعم العمومي.
وفي ظل ارتفاع أسعار الحبوب والزيوت على الصعيد الدولي، وجهت انتقادات لمخطط “المغرب الأخضر” على اعتباره ركز على رفع صادرات الخضر والفواكه وأهمل العمل على تحقيق الاكتفاء الذاتي بخصوص حاجيات المملكة من المواد الأساسية كالحبوب والزيوت، مما جعل السوق المحلية عرضة لتقلبات أسعار هذه المواد في السوق الدولية..فقد أصبح زيت الزيتون لا يشتريه إلا الأغنياء بعدما كان “الخبز و الزيت و الشاي” زاد غالبية الفقراء ، فقد انتقل سعر زيت الزيتون من 25 درهم للتر الواحد قبل انطلاق المخطط الأخضر إلى حوالي85 درهم للتر الواحد سنة 2023..و الطماطم و البصل و البطاطس في حوالي 2 دراهم في المتوسط إلى أزيد من 10 دراهم للكيلوغرام الواحد..!!
و الجدير بالذكر، أن بداية صعود نجم السيد أخنوش في مجال السياسة و تدبير الشأن العام، في العام 2007، مع حكومة عباس الفاسي التي تولى فيها السيد أخنوش وزارة الفلاحة والصيد البحري. وقد تم إطلاق استراتيجية فلاحية تنموية باسم “مخطط المغرب الأخضر” بعد ستة أشهر على تشكيل الحكومة، واستعان الوزير بمكتب دراسات أميركي لإعداد مخطط استراتيجي أطَّر السياسة العمومية في القطاع الفلاحي (الزراعي) لقرابة عقد ونصف العقد. واقترن المخطط الذي انطلق في أبريل/ نيسان 2008، بميزانية بلغت 4.5 مليارات دولار من الدعم العمومي، باسم الوزير ورجل الأعمال عزيز أخنوش، إلى درجة أضحى معها عابرا لكل الحكومات المتعاقبة على المغرب، فقد تبنّته حكومة عبد الإله بنكيران ثم حكومة سعد الدين العثماني. واستند من أجل تنمية القطاع الفلاحي وإعطاء دينامية متطوّرة له، إلى دعامتين أساسيتين: فلاحة عصرية؛ تستجيب لمتطلبات وتنافسية السوق الدولية، وفلاحة تضامنية؛ ترمي إلى محاربة الفقر بالعالم القروي، عبر تحسين دخل الفلاحين.
و من يتابع مداخلات السيد أخنوش يلاحظ كثرة الاستعانة بلغة الأرقام، بغية إقناع المغاربة بنجاح مخططه الذي ساهم في رفع الناتج الداخلي الخام؛ من 6.8 مليارات دولار إلى 13 مليار دولار خلال عشر سنوات (2008-2018). وبوّأ الفلاحة المغربية مكانة مرموقة؛ فالبلد أضحى ثالث مصدر للمنتجات الفلاحية الغذائية في شمال أفريقيا والشرق الأوسط، ورابع أكبر مصدّر لهذه المنتجات بالقارة السمراء.
و الواقع أن هذا المخطط نجح مرحليا في رفع الإنتاج الفلاحي الخاص بمجموعة من المواد، سيما الموجهة نحو التصدير ، لكن و بعد 2020 بدأت سوءات هذا المخطط تنكشف، و أصبح من الضروري تجاوز سحر الأرقام البراقة للوقوف على ما تحقق حقا و حقيقة على الأرض و ما حجم الكلفة التي تم دفعها لإنجاز هذه الأرقام البراقة و الجذابة ..؟ و ما قيمة أي إنجاز فلاحي ما لم يضمن الأمن الغذائي للشعب المغربي ؟
فالمغرب لم يكن عبر تاريخه، من الدول المستوردة للحبوب، بل إنه كان في كثير من الأحيان مصدرا لها، وذلك إلى حدود فرض الحماية الفرنسية على المغرب سنة 1912، وخلال مرحلة الاستعمار الفرنسي، كان المغرب يسد حاجيات فرنسا من الحبوب، وخاصة خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، غير أنه ابتداء من ستينات القرن الماضي وبداية السبعينات، عندما اختار المغرب كخيار استراتيجي الاعتماد على الفلاحة كنشاط اقتصادي أول للبلاد عوضا عن الصناعة، تم الاتجاه أساسا نحو الزراعات التصديرية، كبعض أنواع الخضار والبطاطس والحمضيات كالبرتقال والطماطم، التي من شأنها أن تأتي بالعملة الصعبة.
فالمغربي اليوم الذي لا يتعدى متوسط دخله السنوي 3500 دولار في السنة يقتني منتجات محلية كالطماطم، و الفلفل الأحمر و الفاصولياء و البطاطس و البصل و غيرها من الخضروات و الفواكه، بأثمنة تفوق سعر بيعها في الدول الأوروبية التي يتعدى فيها متوسط الدخل الفردي 25000 دولار ، لذلك فإن مخطط أخنوش “أخضر في عيون الشركات المصدرة، وأسود في عيون المواطن الفقير”. و الأمر كذلك ينطبق على حكومته فهي نعمة على الأغنياء ونقمة على الفقراء و متوسطي الحال..
فالمخطط الأخضر فشل في كسب رهاناتٍ عديدة، بدءا بدعامة الفلاحة التضامنية التي طالما تغنّى معدّو المخطط بأنها السبيل الأمثل لمحاربة الفقر بالقرى، وتجويد ظروف عيش الفلاحين، خصوصا في المناطق النائية والمعزولة، عبر مقاربة متميزة تراعى فيها الخصوصية المحلية، وتقليص الفوارق المجالية بين المناطق ..
وهذا الفشل تؤكده الأرقام و الوقائع ، فيكفي العودة لمشهد القرى و الدواوير التي كانت شاهدا على واقعة سقوط الطفل ريان بالبئر ، و التي نبهتنا إلى خطر داهم و قادم نذرة الماءـ، و قد تابعنا حال البلاد و العباد نتيجة الجفاف الذي شهدته البلاد ، فأين هي إنجازات المخطط الأخطر ؟ فقد اتضح لنا ان العالم القروي رزقه لا زال مرتبط بالسماء و بالتساقطات المطرية ، فالعالم القروي يعيش حالة من الهشاشة و الفقر المستوطن و يكفي جولة بالقرى المغربية التي أصبحت خاوية على عروشها بسبب هجرة الشباب باتجاه المدن بحثا عن الشغل الذي تفتقده في مجالها القروي..
وقد سبق لمؤسسات رسمية في المغرب، أن أثبتت في تقارير موضوعاتية التقييم نفسه عن مخطط المغرب الأخضر، فقد ساءلت المندوبية السامية للتخطيط حصيلته، في تقرير لها “أية آفاق للتعبية الغذائية للمغرب بحلول عام 2025؟”. وانتقدت التركيز على رفع صادرات الخضر والفواكه، على حساب تحقيق الاكتفاء الذاتي الوطني في المواد الأساسية (الحبوب، الزيوت ..)، ما جعل السوق المحلية عرضةً لتقلبات الأسعار دوليا. وأظهر قصور المخطط عن توفير الأمن الغذائي للمغاربة، لتعلق أهداف كبرى فيه بالسماء (التساقطات المطرية). كما سجلت تراجعا واضحا في نسبة مساهمة القطاع في سوق الشغل، بالانتقال سنة الانطلاق من 40 % إلى 34 % سنة 2018. ودعا المجلس الأعلى للحسابات (مؤسسة للرقابة المالية) في تقرير 2019 إلى مراجعة جذرية للمخطط الذي لم يراع المخاطر البيئية والمائية. وحذّر من أزمة جفاف في المنظور القريب، مع الارتفاع المتزايد في منسوب استنزاف الفلاحة المغربية للمياه (89%)، في وقت يشهد تراجعا مهولا في المخزون المائي للمملكة، نتيجة تعاقب سنوات الجفاف بفعل التغيرات المناخية، فالحرص على الاستجابة لطلبات الأسواق الأوروبية، بإنتاج زراعات تستزف المياه (الحوامض، البطيخ الأحمر، الأفوكادو ..) كانت كلفته التفريط في الأمن الغذائي والمائي للمملكة، حتى شاعت بين المغاربة، مع بداية إنتاج البطيخ الأحمر، مقولة “حان موسم تصدير المياه المغربية إلى الأسواق الأوروبية”، بعد متابعتهم وقائع عطش مئات هكتارات من الأراضي، بسبب اختيارات فلاحية غير مناسبة.
هذا إلى جانب إرتفاع أسعار المحروقات رغم انخفاض أسعارها دوليا ووجود بدائل عملية يمكن تبنيها للحد من لهيب الأسعار ، لكن مع ذلك استمرت الأسعار في المحطات على حالها مع بعض الانخفاض الطفيف الذي لا يوازي منحى الارتفاع ، وهو ما يؤكد خطورة تسليم سلطة القرار لمن يمارسون التجارة والتكسب وهو ما تعكسه تقارير تنامي ثروة البعض رغم أزمة المغاربة ومعاناتهم. التي تؤكد أيضا على سيادة منهج الاحتكار وتنازع المصالح وتبادل المنافع وتكريس مظاهر الريع والتركيز الاقتصادي، والجمع بين السلطة والثروة ضدا على أحكام الدستور وأخلاقيات العمل السياسي…و أعيد التأكيد أن أخنوش ” ظاهرة” و تجسيد عملي لظاهرة زواج السلطة بالمال، و هي ظاهرة تعم المغرب و أغلب البلدان العربية، فالمناصب لا تطلب لذاتها و إنما هي منجم و مدخل للحصول على الثروات و المكاسب الطائلة بأقل جهد و بأدنى كلفة .. ..والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون..
إعلامي و أكاديمي متخصص في الإقتصاد الصيني و الشرق ٱسيوي. أستاذ العلوم السياسية و السياسات العامة…