المغرب ولحظة ما بعد كورونا ….

Advertisement

بلال التليدي / كاتب وباحث مغربي..

ظهرت في الآونة الأخيرة أفكار مختلفة ليس لها سابق تمهيد، تحاول تأطير المشهد السياسي ما بعد كورونا، بعضها، تدعو لحكومة كفاءات غير حزبية، أو حكومة ائتلاف وطني.
نسجل التفاوت بين كثافة حضور الفكرتين في المشهد، وإختلاف الداعين لهما، والتباعد الزمني بين طرح الفكرتين، والسبق الزمني لفكرة حكومة الائتلاف على فكرة حكومة الكفاءات.
نسجل ثالثا، أن هذه الأفكار خرجت من داخل النخب القريبة من السلطة، أو من المركبات المصلحية المؤثرة على السلطة، كما نسجل إتحاد تحليل هؤلاء على فكرة الإمتعاض من تجربة العدالة والتنمية، إلى درجة أن بعض المنتصرين لفكرة حكومة الكفاءات، لم يجد من تعليل لفكرته سوى اللجوء للغة الحب والكراهية، والملل من طول تصدر الإسلاميين للمشهد السياسي !
نسجل رابعا، حدث إعتقال أحد صحافيي الرأي الذين وضعوا قلمهم في خدمة الدمقرطة وفي مواجهة أي نزوع نحو التسلط والإستبداد، ووضعه تحت الحراسة وإصدار بلاغ للوكيل العام للملك بمحكمة الاستئناف بالدار البيضاء تكتنفه أسئلة كثيرة تشير إلى الدوافع السياسية للإعتقال.
نشير خامسا، إلى بروز حالة من تهييج الرأي العام ضد أشخاص تسربت لهم تعبيرات تسيء إلى المعتقد الديني.
تبدو هذه الأحداث متناثرة، لا يجمعها جامع، لكنها في حقيقة الأمور تبدو متناسقة إذا نظرنا إلى الوظائف التي تقوم بها في حقل سياسي تريد بعض النخب أن تقوده في متجهات أخرى غير ما تدفع إليه ديناميات ما بعد جائحة كورونا.
نسجل ضمن ديناميات التفاعلات مع بعض هذه الأحداث مواقف ثلاثة أحزاب إصلاحية (العدالة والتنمية، والتقدم والإشتراكية وحزب الإستقلال)، إنتقدت بشدة المضمون الإحتقاري للأحزاب، الثاوي في أطروحة حكومة الكفاءات التكنوقراطية، ونسجل إنتقاد بعضها لفكرة حكومة ائتلاف وطني، ليس من مستند إستهداف الديمقراطية، ولكن من زاوية زمنية، ترى أن الوقت قد تجاوز هذه الفكرة، وكان الأنسب أن تطرح لحظة إندلاع الجائحة، وحاجة البلد لتعبئة وطنية جامعة.
نسجل ضمن الديناميات التفاعلية أيضا، وربما قبلها، حركة غير مسبوقة من اللقاءات التواصلية عن بعد، إضطلع بها كل من العدالة والتنمية والتقدم والإشتراكية، وأحيانا عبر لقاءات مشتركة ضمت حزب الإستقلال أيضا، تدور بعض أفكارها حول ضرورة رفع السقف السياسي بعد جائحة كورونا، وضرورة تعزيز الإصلاحات.
لا يهم البحث التفصيلي في مصدر الأفكار التي طرحت حكومة الكفاءات، ولا التي كانت من قبل تطرح فكرة تعديل الفصل 47 من الدستور، فالذي يهم أكثر هو فهم مرامي هذه الأفكار والوظائف التي تضطلع بها في لحظات الأزمة.
نقول لحظات الأزمة، لأن الوضع السياسي ما بعد كورونا لن يكون حتما مطابقا أو قريبا من الوضع السياسي الذي كان قبلها، كما أن موازين القوى ومواقع الفاعلين لن تبقى هي الأخرى كما كانت من قبل.
ما من شك أن الجواب عن لحظة ما بعد كورونا، لا يمكن إلا أن يكون سياسيا، فالدولة ليست لها إمكانات مالية لمواجهة الطلب الإجتماعي، وسياسة الاقتراض قبل جائحة كورونا، كان عنوان الوضع السياسي هو إستمرار مسار تقليم أظافر العدالة والتنمية بمعادلة «تغول التكنوقراط وحد أدنى من التمثيلية السياسية»، عبرت عنها بشكل واضح النسخة الأخيرة لحكومة العثماني.
مع كورونا، عاد ثقل الدولة، تحت مقولة «الإجماع والتضامن»، وصارت لجنة اليقظة الإقتصادية، ربما بديلا عن الحكومة. ورغم حرص رئيس الحكومة بدينامياته على الحضور وممانعة هذه الإرادات، إلا أن شكل تعقب خرجاته الإعلامية كانت تظهر للعموم درجة التذمر من «السياسي»، فكلما خرج بخطاب فيه قدر من الصراحة والتعبير أحيانا عن عدم وضوح الرؤية، يأتي عقبه وزير تكنوقراطي، يظهر إعلاميا على أنه ينسخ ما قاله رئيس الحكومة !
المثير في الموضوع، أن السيد سعد الدين العثماني، وعلى غير عادته الهادئة، تعرض بنقد شديد لفكرة حكومة كفاءات وطنية، وعلل إستحالة الرهان عليها بضعفها عن مواجهة الجمهور، وأصدر حزبه بلاغا يرد فيه على هذا المطلب غير الديمقراطي (حكومة كفاءات) أي جمهور يقصد ؟
هنا بيت القصيد، لأن الخطاب موجه لما بعد كورونا، أي في اللحظة التي يتعالى فيها الطلب الإجتماعي، وتعود فيها الحركات الاجتماعية إلى زخم مماثل وربما أقوى من زخم 20 فبراير.
أتينا إلى تحديد الحقل السياسي الصراعي، الذي نشأت فيه تلكم الأفكار، والتي تستهدف إن استعرنا بعض آليات التحليل الماركسي أداء وظائف إيديولوجية لنشر الوعي الزائف بالواقع، وصرف النظر عن حقيقة الصراع المرتقب. ما من شك أن الجواب عن لحظة ما بعد كورونا، لا يمكن إلا أن يكون سياسيا، فالدولة ليست لها إمكانات مالية لمواجهة الطلب الإجتماعي، وسياسة الإقتراض التي نصح بها السيد عزيز أخنوش لتلافي عودة سيناريو «أولوية التوازنات الإقتصادية الكبرى للدولة»، لا يمكن أن تطمئن إليه النخب العليا في الدولة، أي أنه ليس ثمة أي خيار سوى العودة لجواب سياسي مثيل لجواب ما بعد 20 فبراير، بإصلاحات سياسية بأفق دستوري واضح، وحكومة سياسية تستطيع أحزابها مقايضة الجمهور بمعادلة توضع في كفتها اليمنى الإصلاحات السياسية والدستورية، وفي كفتها اليسرى تهدئة الجمهور من أجل الإستقرار الكفيل بالتمكين لهذه الإصلاحات.
المعضلة، أن هذا الجواب السياسي الحتمي لإصلاح الأوضاع وتأمين الإستقرار، سيطرح سؤال الحزب صاحب القاعدة الإجتماعية العريضة المؤهل للقيام بمهمة التجسير بين المعتدلين من النخب الذين يراعون مصالح الدولة العليا وعلى رأسها الملكية والإستقرار، وبين الجماهير الساحقة التي دخلت في موجة غير مسبوقة من الضرر والقهر الإجتماعي.
في هذا السياق، ينبغي أن نفهم تدفق هذه الأفكار، ليس لتأطير المشهد السياسي وتوجيهه، ولكن، لخلق حالة من الضبابية والغموض والإرتباك، تمنع تشكل الخيار الحزبي الإصلاحي المشترك الضاغط على الجواب السياسي ذي المضمون الدستوري الواضح. ضمن هذا السياق نفهم حدث إعتقال سليمان الريسوني، لأن الرمزية مهمة في السياسة، وأي مواجهة علنية للسلطوية والإستبداد لا ينبغي أن تقوم بدور في هذه اللحظة المعتمة.
ضمن هذا السياق نفهم حدث تهييج الجمهور ضد تعبيرات طائشة تستهدف المعتقد، لخلق حالة من التشتت حول موضوع الحريات والحقوق، وحتى ينتشر فوضى الطلب على الإعتقال، بما يسمح بمزيد من تغول سلطة النيابة العامة، ونشر ثقافة الخوف، بما يمنع تشكل زخم الطلب الكثيف على الجواب السياسي.

Advertisement
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.