دولة المغرب التي نشأت منذ أربعة آلاف عام قبل الميلاد، تمتاز بتنوُّع ثقافي فريد مصدره وفود العلماء والأفراد من جميع الأديان، وكذلك تعاقب هجمات استعمارية عليها من الغرب، سواء من دول أوروبية أو عربية.
وقبل عصور تلك الغزوات، وجد العلماء نماذج من الإنسان الأول وحفريات لها قيمة كبرى في الدراسات الباثولوجية. وقد حظيت دولة المغرب أيضا بنصيب من الوجود في الميثولوجيا الإغريقية والرومانية، وتبعا للميثولوجيا الإغريقية، عندما طُلِب من هرقل اثنا عشر عملا مستحيلا، ارتبط اسم هذا البطل الأسطوري بالمغرب، الذي كان له وجود بارز في الأساطير الفينيقية، والدليل على ذلك وجود معبد الإله الفينيقي «ملقرت» Melqart في مدينة ليكسوس. أضف إلى ذلك العديد من الشواهد والتيارات التي تؤكِّد التنوُّع الثقافي في هذا البلد، الذي كانت بدايته الحقيقية في القرن الأول قبل الميلاد، حينما أسس الأمازيغ حضارة قوية ذات بأس تحت اسم مملكة «موريطانيا» وهي مشتقَّة من الكلمة الإغريقية «موروس» وتعني «أسود».
ومع توالي الهجمات الاستعمارية، تم تقسيم مملكة «موريطانيا» إلى «موريطانيا القيصرية» وهي التي تضم أجزاء من الجزائر، و«موريطانيا الطنجية» وتشير إلى دولة المغرب في العصر الحالي. وعند العرب، عرفت دولة المغرب باسم المغرب الأقصى؛ حيث كان هناك أيضا المغرب الأدنى وتشير إلى دولة تونس، والمغرب الأوسط ويشير إلى دولة الجزائر. أي أن بلاد المغرب كانت وحدة واحدة، لولا الاستعمار وتقسيمه لها. ولطالما كان المغرب ملاذاً للأدباء والمفكّرين والتيارات الدينية لبعده عن سلطة الخلافة الإسلامية، ومن ثمَّ تمتع كل من يلجأ له بحرية التعبير عن آرائه.
ولم يسلم المغرب منذ القدم من الاستعمار؛ فهناك الرومان والإغريق الذين أثَّروا بشكل واضح في حركة الأدب والفنون. فالاستعمار الروماني، الذي اشتهر بمسرحه الشهير الذي يقدَّم عليه جميع ألوان الفنون، جعل لسكَّان المغرب ميلا فطريا لعشق المسرح والفنون المسرحية، استمر إلى العصر الحديث، وازدادت أهميته في العصور التي عانى فيها الشعب من الاستعمار الإسباني والاستعمار الفرنسي. ولا يمكن إنكار الدور الجريء الذي كان يلعبه محمد القرّي في مقاومة الاستعمار بمسرحياته الجريئة، التي تندد بأفعال المستعمر الشنعاء، ما تسبب في دخوله السجن وتعذيبة لمرات عدَّة بسبب مسرحياته التي تحض على المقاومة.
المسرح في إطاره الحديث لم يكن ليحافظ على الهوية المغربية المتعددة الثقافات بالقدر نفسه الذي استطاع أن يضطلع به مسرح التراث الشعبي، الذي يعتمد في الأساس على الإطار المشهدي، أو كما يسميه المغاربة «الفرجوي»؛ ولذلك اعتمد هذا التراث الشعبي لونا مسرحيا له جذور ضاربة في الماضي. ومن أشهر ألوان المسرح الشعبي هو مهرجان «سلطان الطلبة» الذي يتم الاحتفال به في فصل الربيع من كل عام من قبل طلبة مدينة «فاس» وفيه يقام مزاد علني على «تاج السلطة» ومن يفوز به يتم تنصيبه «سلطان الطلبة» لمدة أسبوع كامل، يحظى فيه السلطان بخدمة كاملة من أصدقائه الذين يقومون بدور الحاشية. وفي نهاية الأسبوع، يجب أن يتسلل السلطان ليلا من المخيَّم في الخفاء قبيل الفجر؛ لأنه لو وقع في يد أصدقائه سيوسعونه ضربا بالنعال.
ومن أهم ألوان الفنون الفرجوية الأخرى التي تتميَّز بها الهوية المغربية هي «فن الحلقة» الذي تختلط فيه المبادرة والتلقائية بالحكي والتشخيص والإيماء، من قبل رجال متمرّسين في الصنعة التي اكتسبوها بمباركة من أربابها. ويسمى المشخص في فن الحلقة «الحلايقي» أو «لمحارفي» (كما يسميه أرباب هذا اللون) والذي تكون مهمته اجتذاب أكبر عدد من الجمهور (الفرْك) من خلال الاقتراب من أفكارهم وانشغالاتهم اليومية والآنية، التي تكون بمثابة المدخل الذي ينطلق منه لعمل حلقات يكون فيها العرض تفاعليا بين الفرك ولمحارفي، أو حتى بين الفرك بعضهم مع بعض. وعلى هذا، يبدأ لمحارفي في إضحاك الجمهور والسخرية منهم وإبهارهم بمواقف تلقائية. ومن اللافت، أن الحلقة تضيق أو تتسع تبعا للموقف الذي يتم تمثيله؛ فإذا كان لمحارفي يقوم بدور الطبيب، تضيق الحلقة؛ لكنها تتسع في حال الحكَّائين ومروضي الثعابين والقردة والموسيقيين والمغنيين الشعبيين.
ويطوف لمحارفية (الحلايقة) أرجاء البلاد، قد يكتسب بعضهم شهرة واسعة فينتظره الجمهور خصيصا. ولا يدخل الحلايقي داخل الحلقة، إلا للدعاء لمن أعطى له هبة سخية، أو الدعاء على من غادر دون أن يعطيه نقودا. وشبيه بفن الحلقة هو فن البساط، وليس المقصود من كلمة «البساط» ما يوضع على الأرض من غطاء، بل «التباسط في الكلام» بالجنوح إلى الهزل والمزاح والفكاهة مع ترك الاحتشام والتلفُّظ بعبارات جريئة. وكان هذا اللون مخصصا لتسلية السلاطين ورجال الدولة والأثرياء على وجه الخصوص، لكنهم لم يغفلوا أيضا تقديمه للعامة. ولتحقيق التسلية، كان هذا الفن يعتمد على مشاهد هزلية قصيرة قد تصاحبها رنَّات البندير ونغمات المزمار، وكثيرا ما كان يقوم على انتقاد ظواهر اجتماعية عينها بطريقة ساخرة خالية من الحشمة، أو قد يتطرَّق التشخيص والسخرية إلى انتقاد وجهاء المجتمع.
وفي بعض الأحيان، كان القائمون على فن البساط يستخدمون هذا الفن للنصح والإرشاد بطريقة غير مباشرة، أو للتعبير عن شكوى ومشكلات الشعب أمام السلطان وكبار رجال الدولة حتى يلتفتوا لها ويعملون على حلّها. وقد تولَّد عن فن البساط هذا لون آخر يدعى «طائفة سيدي الكتفي» التي تضم اثني عشر فردا، ومثل البساط، فإنها تبدأ بقصيدة تمثيلية. وبعد الأداء، تدخل الحضرة. وهناك الفنون الأخرى مثل فرقة الرماة العسكرية التي تتدرَّب على حمل السلاح وموضوعها رحلات القنص والصيد وتسمى «عبيدات الرما». وتوجد ألوان أخرى من الفنون الشعبية المغربية التي يحاول الشعب جاهدا ألا يفقدها حتى لا تضيع هويته، وسط عالم متعولم شديد الجنوح للتغريب. وعلى هذا، كانت ولا تزال حتى الآن «ساحة جامع الفنا» في مراكش بمثابة مسرح لعرض هذه الفنون، وتم اعتماده من قبل اليونيسكو باعتباره مسرحا أثريا تاريخيا يجب الحفاظ عليه.
ومن الملاحظ وجود أماكن عرض أخرى في الأسواق والساحات في كبرى المدن، مثل باب الفتوح وباب عجيسة في فاس، وباب منصور العلج في مكناس. فالحفاظ على التراث الذي يمثل الهوية الثقافية الأصيلة للبلاد ليس من الصعب، لكن الأصعب هو محاولة استرجاعه بعد اندثاره. وتعد الألوان المسرحية البدائية التي تم ذكرها سالفا، وسيلة لتنشيط الذاكرة الجمعية لأبناء البلد حتى لا ينسوا أبدا ماضيهم؛ فدون التاريخ لن يكون هناك حاضر؛ وكذلك ينطبق الحال بالنسبة للمستقبل.
كاتبة مصرية