أحد التحديات التي ستقف أمامها الحكومة الجديدة في إسرائيل، هو الإبقاء على الزخم الإيجابي في التطبيع الثقافي – الديني مع المغرب. في السنتين اللتين مرتا منذ الإعلان عن استئناف العلاقات بين الدولتين في 22 كانون الأول 2020 سرعت المملكة جهودها لإحياء التراث اليهودي المغربي، ابتداء من مبادرة لترميم مئات المواقع اليهودية، عبر قرار الحكومة لتأطير وظائف الجالية اليهودية في الدولة وانتهاء بفتح كنيس – الأول من نوعه في العالم العربي، يقع في جامعة.
إن الالتزام المغربي بحياة إسلامية ومشتركة ينعكس جيداً أيضاً في متحف “بيت يهودا” الذي فتح في آب الماضي في الكنيس “ايسيغ” في طنجة – المتحف اليهودي الثالث في الدولة، والثاني الذي دشن في 2022، بدعم مباشر من الملك المغربي محمد السادس. هذا المشروع، الذي ضمن تمويله منذ 2019 مثلما هي أيضاً اتفاقات إبراهيم، ينبع من فكرة وطنية واحدة: الهوية الوطنية والتاريخية متعددة الثقافات للمغرب.
تتميز طنجة عن مدن أخرى في المغرب أنه لا يوجد فيها حي منفصل مخصص لليهود. هذه الحقيقة تعبر عن انخراط الجالية اليهودية في المدينة ومساهمتها الهامة لعموم سكانها، بما في ذلك إقامة مستشفى ونشاط تجاري مع دول أوروبا. الغالبية الساحقة من الـ 18 ألف يهودي ممن كانوا يعيشون في طنجة هاجروا في الخمسينيات من القرن الماضي في أعقاب قيام دولة إسرائيل. تبقى اليوم في المدينة نحو 30 يهودياً فقط، معظمهم كبار في السن، لكن تمسكهم بطابع المدينة كنموذج للتعايش بين الأديان بقي كما كان.
الجدران العالية والبيضاء للمتحف مزينة بأغراض يهودية طنجية، وكتب توراة قديمة، وكتابات، وخرائط وأعمال معدنية. مدام سونيا كوهن ازغوري، من قيادات الجالية اليهودية في المدينة، أشرفت بيد عليا على عملية إقامة المتحف، بعد أن أنقذت طوال سنين بقايا من التراث اليهودي من الكنس في المدينة، والتي لم تعد فاعلة. على حد قولها، الخليط بين عناصر بالعبري والفرنسية والحكيتية (لهجة تقليدية للإسبانية تحدثها يهود شمال المغرب)، ومعمار إسلامي مغربي – كل هذا يضع الزائر في محيط ثقافي يهودي ومغربي يستمد إلهامه من البحر المتوسط والمحيط الأطلسي.
إن مساهمة الملك في ترميم “بيت يهودا” تبرز في مدخل المتحف، حيث تنصب يافطات تصف عملية الترميم وإلى جانبها رسالة شخصية بتوقيع محمد الخامس يعلن عن مسؤوليته عن حماية عموم الجاليات الدينية والعرقية في الدولة، بما فيها اليهودية.
اليهود أبنائي.. مثل كل المغربيين
النهج الإيجابي للمغرب تجاه التراث اليهودي يكمن في الهوية الوطنية والصلة القريبة التي تطورها الدولة مع الشتات المغربي في أرجاء العالم. عرفت الجالية اليهودية في المغرب طوال سنوات التاريخ بعلاقات الجيرة الطيبة مع الأغلبية الإسلامية، وأظهر ملوك المغرب بثبات تسامحاً وتقديراً تجاه أبنائها وبناتها. هكذا مثلاً، كان الملك حسن الثاني، والد الملك الحالي، قد أشار في مناسبات مختلفة بأن اليهود جزء لا يتجزأ من المغرب، ووجودهم في الدولة سبق وصول الإسلام.
هذا الخطاب لا يستهدف فقط آذان الجالية اليهودية أو آذان من يتحدث معهم من الإسرائيليين. ففي افتتاح مؤتمر دولي عقد في باز في تشرين الثاني، ألقى انديرا ازولاي، المستشار اليهودي لمحمد السادس، كلمة باسم الملك. وعلى حد قول الملك، فإن جده دافع عن أبناء البلاد اليهود في وجه البربرية النازية، وطور أبوه روح الأخوة بين يهود المغرب والمسلمين، وهو نفسه يعمل على حفظ وتعزيز إرث يهود المغرب. وبالفعل، الموقف من اليهود جزء من مشروع أوسع للأسرة المالكة: الدفع قدماً بهوية وطنية تتميز بالتعددية الدينية والثقافية والعرقية. يعترف بهذا النهج في دستور الدولة من العام 2011 الذي يقرر بأن “وحدة المغرب” هي ثمرة الانصهار المشترك للعناصر العربية – الإسلامية، والبربر والصحراويين، الذين يتغذون ويثرون بتأثيرات إفريقية، وأندلسية، وعبرية، وبالبحر المتوسط”.
يبذل المغرب جهوداً جمة في تطوير علاقات مع الشتات المغربي في العالم. وحسب تقديرات رسمية، يبلغ عدد هذا الشتات نحو 5 مليون نسمة (نحو 15 في المئة من سكان المغرب). الإسرائيليون من أصل مغربي – نحو 800 ألف نسمة – يعتبرون جزءاً من هذا الشتات الثاني في حجمه بعد الفرنسي. في العام 1956 في أعقاب هجرة يهود المغرب إلى إسرائيل، قال الملك محمد الخامس إن اليهود أبنائي، مثل كل المغاربة”.
إلى جانب اعتبارات تاريخية، فإن الجهود المتعلقة بحفظ تراث يهود المغرب تنبع أيضاً من دوافع راهنة. مع أن المغرب طور مواقع يهودية حتى قبل استئناف علاقاته مع إسرائيل، فهذا الميل تعزز في ضوء رغبة في اجتذاب سياح إسرائيليين إلى المملكة. عادل الفقير، المدير العام لمكتب السياحة الوطني المغربي، شهد بأن المغرب يسعى لزيادة عدد السياح الإسرائيليين الذين يصلون إلى الدولة ثلاثة أضعاف، من 70 ألفاً إلى 200 ألف.
وثمة اعتبار آخر لتطوير التراث اليهودي – المغربي، وهو تعزيز شرعية الملك الذي يحمل اللقب الإسلامي “أمير المؤمنين” ويمنح الملك هذا اللقب في دستور الدولة، وبحكمه فهو مسؤول عن حفظ التعددية العرقية والدينية في المجتمع المغربي. وكما درج الملك على أن يشير، فإنه “كمن هو مسؤول عن المؤمنين – كل المؤمنين – فمهمتي هي ضمان حرية العبادة (الدينية) في أرجاء المملكة المغربية”.
الجانب الفلسطيني من العملة
لوظيفة الملك كـ “أمير المؤمنين” وجه آخر من شأنه، في ظروف معينة، أن يثقل على العلاقات مع إسرائيل. بالتوازي مع التزام الأسرة المالكة بتطوير التراث اليهودي، فإنها ملتزمة أيضاً بالمسألة الفلسطينية وبالقدس. تمكن المغرب حتى الآن من المناورة في التوتر بين الالتزامين بنجاح. الملك محمد السادس، مثل سلفه، يولي أهمية كبيرة للموضوع الفلسطيني ويحرص على التعبير عنه. في تشرين الثاني الماضي، في كلمة علنية نادرة، ألقى خطاباً بمناسبة يوم التضامن الدولي مع الشعب الفلسطيني، شدد فيه – وليس للمرة الأولى – تأييده لحقوق الشعب الفلسطيني وحل الدولتين.
يتبوأ ملك المغرب أيضاً منصباً ثابتاً كرئيس لجنة القدس في منظمة التعاون الإسلامي، وبحكم ذلك يتحمل مسؤولية تجاه المقدسات الإسلامية والطوائف الإسلامية في المدينة. هذا المنصب يمنح الملك المغربي تأثيراً على الخطاب الإسلامي المتعلق بالنزاع العربي الإسرائيلي ويشكل مرسى في الشرعية الدينية للأسرة المالكة. ومثلما تسمح هذه المكانة للملك بأن يطلق حدة الخطاب الديني الحماسي تجاه إسرائيل، فإنها تقيد أيضاً قدرته على الدفع قدماً بالتطبيع معها في أوقات التصعيد.
فضلاً عن ذلك، فإن التزام المملكة المغربية بالقضية الفلسطينية وبحقوق المسلمين في القدس يعبر عن مزاج عام يسود في المغرب وباقي الدول العربية: في أثناء كأس العالم لكرة القدم في قطر، عندما رفع كثير من المشجعين العلم الفلسطيني رغم أن المنتخب الفلسطيني لم يتمكن من الصعود إلى المباريات، رفع منتخب المغرب العلم الفلسطيني إلى جانب المغربي بعد انتصاراته.
إن حاجة النظام المغربي لإظهار الولاء للقضية الفلسطينية تزايدت أكثر فأكثر منذ الإعلان عن استئناف العلاقات مع إسرائيل، في ضوء الاتهامات الموجهة إليه بـ “خيانة” الفلسطينيين. لذا، ففي أوقات التصعيد بين إسرائيل والفلسطينيين يجد صعوبة في الحفاظ على موقف حيادي لزمن طويل.
توصيات السياسة
إن الزخم الإيجابي في علاقات إسرائيل مع المغرب ليس أمراً مسلماً به في ضوء التحديات التي أمام البلدين، وعلى رأسها موقف المغرب من الفلسطينيين. وثمة مسألة أخرى تثقل على تطور العلاقات، هي الاعتراف الرسمي لإسرائيل بسيادة المغرب على الصحراء الغربية. هذه مسألة أساسية في علاقات الخارجية للمغرب، التي تتوقع تأييداً واضحاً لموقفها من جانب حلفائها، بما في ذلك إسرائيل. ستكون الحكومة الجديدة مطالبة ببذل جهود لتعزيز زخم التطبيع. من هنا ينبع عدد من التوصيات السياسية:
أولاً، على إسرائيل مراعاة موقف الملك المغربي الحساس في النزاع الإسرائيلي الفلسطيني وفي الشكل الذي يمكن أن يؤثر فيه على علاقات إسرائيل – المغرب.
ثانياً، على إسرائيل والمغرب أن يواصلا الاستناد إلى تراثهما المشترك كرافعة لتطوير علاقات خاصة على مستويات مدنية وثقافية وإنسانية حيوية.
ثالثاً، التوصية الأخيرة تتعلق بروح اتفاقات إبراهيم وقيم التسامح الكامنة فيها. وهذه السياسة ستساهم في تطوير علاقات إسرائيل مع دول عربية وإسلامية في المجال وتجدي المجتمع الإسرائيلي نفسه نفعاً.
بقلم: سام ميلنر ومور لينك وأوفير فينتر
نظرة عليا 29/12/2022
Advertisement
Advertisement