يوم الأربعاء الماضي نشرت مجلة فرنسية تحقيقا يقود إلى استنتاج أن المزاعم الروسية عن تفشي الفكر النازي في أوكرانيا ووعيد الرئيس بوتين بتطهيرها من النازيين ليست مجرد ذرائع واهية.
تحقيق مجلة “نوفيل أوبسِرفاتور” يوثّق الكثير من الوقائع عن الوجود النازي في أوكرانيا. أبرز تجليات هذا الوجود “فيلق آزوف”. وفق المجلة، تأسس الفيلق في 2014 على يد أندريه بيليتسكي، وهو رجل في بداية الأربعينيات الآن، خريج سجون لم يُخفِ يوما أفكاره النازية واليمينية. تأسس الفيلق بمبادرة حكومية لدعم القوات النظامية المتعثرة يومذاك في مواجهة الانفصاليين الموالين لروسيا في شرق البلاد، ثم ألحقتهم وزارة الداخلية بالقوات النظامية في خريف العام ذاته.
في البداية كان الفيلق يتكون من بضعة مئات من الشبان المتحمسين، لكنهم اليوم بين ثلاثة آلاف وخمسمئة وخمسة آلاف كلهم متطوعون.
في حرب إقليم دونباس سنة 2014 أبدى مقاتلو “آزوف” شجاعة كبيرة وبسالة مكّنتهم من الصمود أمام الانفصاليين. لكنهم، في المقابل، ارتكبوا فظاعات وجرائم حرب وثّقتها الأمم المتحدة في تقارير رسمية.
“فيلق آزوف” مثال واحد لمجموعات شبه عسكرية أخرى تأسست في أوكرانيا خلال السنوات الماضية، قاسمها المشترك توجهها النازي. وهي اليوم في الخطوط الأمامية لمواجهة الغزو الروسي، ويبدو أنها تُبدي بسالة شديدة.
من المؤكد أن المقاتلين النازيين أقلية مهما ارتفع عددهم. إذ بينما يتجاوز تعداد الجيش الأوكراني المئتي ألف جندي، لا يزيد عددهم عن بضعة آلاف ليشكلوا نحو 5% من المجموع في أقصى تقدير. (يجب أن يضاف إليهم اليوم رفاقهم الذين التحقوا بهم هذه الأيام من دول أوروبا والولايات المتحدة مدفوعين بالحماس العقائدي ذاته).
غير أن الأمر أكبر من الأعداد الضئيلة وأخطر من النسب المئوية المتدنية. إنها أزمة أخلاقية قبل كل شيء. من المفروض أن ثلاثين نازيا يحملون السلاح يشكلون خطرا على ما ومَن حولهم. ومن المفروض أن إدماجهم في جيش نظامي لدولة أوروبية عار ومعضلة أخلاقية وسياسية لأصحاب هذا القرار وللمجتمعات الغربية ككل إذا ما قبلت بالتعامل معهم كما هو الحال في أوكرانيا حيث يجري تشجيعهم ومدّهم بالسلاح وكل أنواع الدعم.
وهنا أحد أكثر أسئلة الحرب في أوكرانيا إزعاجا: كيف تقبل الحكومات الأوروبية بوجود النازيين، وترضى بالتعامل معهم ولو عبر وسيط اسمه فولوديمير زيلنسكي؟
ثم يصبح السؤال أكثر إلحاحا لأن مسرح الحديث قلب أوروبا الذي شهد ميلاد النازية وانطلاق شرارة الحرب العالمية الثانية، ولأن بعض “أبطال” هذه النازية وضحاياها لا يزالون على قيد الحياة.
يحيل السؤال آنف الذكر إلى سابقة مشابهة يوشك العالم أن ينساها. في ثمانينيات القرن الماضي استعملت الولايات المتحدة وحلفاؤها، وبتواطؤ من حكومات عربية، مقاتلين عربا ومسلمين من كل القارات لمحاربة الاتحاد السوفييتي في أفغانستان.
رغم الخلافات العقائدية والسياسية والاستراتيجية الجذرية، اتسم الأمريكيون والأوروبيون آنذاك بواقعية مفرطة وجعلوا شعارهم “المصلحة أولا” و”الغاية تبرر الوسيلة”. لم تجد الحكومات الغربية أيّ صعوبة تُذكر لتبرير لجوئها إلى استغلال سذاجة أولئك الشبان واندفاعهم للقتال في مستنقع لا يعنيهم في الحقيقة.
ثم تكرر الأمر في سوريا بعد 2011 وإنْ في سياق آخر وظروف مختلفة.
يجب انتظار أن تنتهي الحرب في أوكرانيا ويستتب الوضع ليتضح هل أن الحكومات الغربية تكرر بالنازيين الجدد في أوكرانيا تجربة الجهاد الأفغاني قبل أربعين سنة.
أيًّا كان الجواب، هي معضلة أخلاقية وخطأ استراتيجي. الإصرار على تكرار السيناريو الأفغاني ينزع عن الحكومات الغربية كل شرعية أخلاقية. أما قبول النازيين الجدد كأمر واقع يستحق العناية والاهتمام، فإضافة إلى أنه ينزع الشرعية الأخلاقية عن هذه الحكومات، هو خطأ استراتيجي وسياسي فادح عواقبه غير محمودة لأن النازيين الجدد يشكلون خطرا على أوروبا قبل غيرها.. أو هكذا كان يقال إلى غاية الساعات التي سبقت الغزو الروسي لأوكرانيا.
تزداد معضلة الغرب صعوبة (نظريا على الأقل) مع كون أغلب النازيين الجدد في أوكرانيا أبناء البلد وليسوا مستورَدين مثلما كان الجهاديون في أفغانستان. في أفضل الأحوال هم أبناء القارة الأوروبية يحملون تراثها الثقافي والروحي والديني، وليسوا دخلاء عليها كما كان “المجاهدون” في أفغانستان. هذا يجعل من الصعب على الحكومات الأوروبية أن تنقلب عليهم كما فعلت مع جهاديي أفغانستان والشيشان وسوريا.
السؤال الآخر الذي يفرضه هذا النقاش يُطرح عن أسباب امتناع الحكومة الإسرائيلية عن دعم أوكرانيا رغم ما فيها من يهود لا يخفون ولاءهم لإسرائيل، ورغم استماتة رئيسها في التوسل ولجوئه إلى توظيف التاريخ والدين (اليهودية) لكسب تعاطف الدولة العبرية.
عدا عن البراغماتية التي تفرضها حاجة إسرائيل الماسة لروسيا في سوريا، من الصعب تجاهل الجانب التاريخي في النقاش والجرح الغائر الذي سبّبته النازية، ولا تزال، في الضمير الجمعي اليهودي ونصيب أوكرانيا فيه.
بعض الإعلاميين والسياسيين في الغرب حاولوا تكذيب أن تكون أوكرانيا مرتعا للنازيين، كما يزعم بوتين، وحجتهم أن المكوِّن اليهودي فيها قوي ورئيسها ينحدر من عائلة يهودية نجت من المحرقة، كما يقولون.
لكن الإعلام الإسرائيلي سارع للنبش في تاريخ أوكرانيا أثناء الحرب العالمية الثانية، فكان له رأي آخر. مَن يتابع ما يُنشر ويُبث في إسرائيل هذه الأيام تستوقفه ردود قاسية على استجداءات زيلنسكي لإسرائيل، واتهامات له بالقفز على التاريخ بل وتزويره. بالنسبة للإعلام الإسرائيلي، أوكرانيا صاحبة تاريخ مؤلم في جزء منه لليهود يجعلها لا تستحق أن تكلف إسرائيل نفسها عناء الدفاع عنها، خصوصا أن ما يميّز ما يجري في أوكرانيا أن كلا طرفي الحرب، يغرفان من تراث الحرب العالمية الثانية وأوهامها.
*كاتب صحافي جزائري