في صباح أحد أيام نوفمبر بجنوبي إيطاليا، وجد جيان باولو رومانو رسالة غير موقعة تحت المدخل الزجاجي لمعرض سيارته جاء فيها بأن عليه دفع 250 ألف يورو، أي ما يعادل 286 ألف دولار، حتى يكون بأمان، وفقا لما ذكرت صحيفة “وول ستريت جورنال”.
ولكن رومانو لم يعرف لمن كان يتوجب عليه دفع أموال الحماية المعروفة باسم “البيتزا”، واكتفى أصحاب الرسالة بتذكيره أنه عليهم أن يجدهم بنفسه، وأنهم يعرفون كل شيء عنه وأين تقيم أسرته.
ولكن رجل الأعمال قرر تجاهل تلك الرسالة التي كانت الأولى من نوعها التي يتلقاها منذ أن أسس شركة عائلية مع شقيقه في العام 1964، وأبلغ الشرطة عن ذلك التهديد.
وفي فجر يوم 4 يناير، انفجرت قنبلة يدوية الصنع احتوت على البارود والمسامير في صالة عرض السيارات التابعة لشركته، لتلحق أضرارًا بالغة بثلاث سيارات معروضة، وتترك ثقوبًا في البوابة المعدنية للمحل المقابل.
وتعقيبا على ما جرى معه، قال رومانو: “لا نأسف على الإبلاغ عن ذلك، على الرغم من أننا لا نشعر بالأمان الآن”.
وقد أدى الانفجار الذي وقع في صالة عرض رومانو إلى إطلاق سلسلة من الهجمات التي لم تشهدها من قبل مقاطعة فوجيا الإيطالية، إذ عانى أصحاب 14 متجرًا وشركة من هجمات بالقنابل أو الحرائق المتعمدة منذ بداية هذا العام ، وفقًا لجمعية فوجيا المناهضة للابتزاز.
وتشير موجة العنف إلى محاولة من قبل مافيا فوجيا لإعادة تأكيد سلطتها، بعد حملة من قبل السلطات الإيطالية في السنوات الأخيرة أدت إلى اعتقال المئات من المافيا المحليين، حسبما قال مسؤولون قضائيون وأصحاب أعمال.
وغالبًا ما يُشار بأصابع الاتهام إلى عصابة من المحليين بقيت نشطة المنطقة لمدة ثلاثة عقود، باسم المافيا الرابعة، لأنها أصغر وأقل شهرة من مافيا كوزا نوسترا الصقلية، أو مافيا ندرانجيتا في كالابريا، أو مافيا كامورا في نابولي.
وقال كبير المدعين العامين في فوجيا، لودوفيكو فاكارو، إن عدد المحاكمات الجنائية المعلقة في المقاطعة زاد إلى أكثر من 12 ألف، مقارنة بـ 9700 قبل أربع سنوات، ويرجع الفضل في ذلك إلى حد كبير إلى حملة السلطات ضد العصابات.
وتعد فوجيا من أفقر المقاطعات في جنوب البلاد، إذ بلغت نسبة البطالة فيها 25٪، وهي واحدة من أعلى المعدلات في إيطاليا، فكثير من سكانها لديهم فقط وظائف موسمية فقط في قطاع السياحة أو خلال مواسم حصاد الطماطم والقمح، وبالتالي غالبا ما يهاجر الشباب إلى شمال إيطاليا الأكثر ثراءً، أو إلى خارج البلاد.
وعلى مدار العشرين عامًا الماضية، انخفض عدد سكان فوجيا بنسبة 13٪ ليصبح عددهم 600 ألف نسمة.
وقال أنطونيو لارونجا، قاضي التحقيق في فوجيا ومؤلف كتاب عن المافيا المحلية، إن الابتزاز كان الدعامة الأساسية للغوغاء المحليين، لدرجة أنه كان يُعتقد حتى وقت قريب أن 80٪ من أصحاب المتاجر في فوجيا يدفعون “البيتزا” وأن قلة منهم يبلغون عن تعرضهم للابتزاز.
وتابع: “وجدنا حتى أن بعض رواد الأعمال اتصلوا بشكل عفوي ومبادرة منهم برجال العصابات لكي يعرضوا الدفع”، مشيرا إلى أن المافيا الرابعة هي من تهرب عبر ألبانيا معظم الماريجوانا التي تدخل إيطاليا، وأنها كثيرا ما تسرق عربات الأمن على الطرق السريعة، مستخدمة بنادق الكلاشينكوف.
قتل وثأر وخوف.
واجهت المافيا الرابعة من انتكاسات كبيرة في العام 2017، ففي أغسطس من تلك السنة لقي اثنان من أفراد العصابة، بما فيهما زعيمها ماريو روميتو، حتفهما على طريق ريفي على يد عصابات منافسة ساروا بجانب سيارتهم قبل أن يطلقوا النار عليهما ببنادق الكلاشينكوف.
وكانت تلك الحادثة هي الأحدث في سلسلة من عمليات القتل في نزاع بين عشيرة روميتو، وعائلة لي بيرغوليس المنافسة، وفقًا لكلام لارونجا.
ولاحق القتلة مزارعان، شاهدا إطلاق النار وحاولا الفرار، وقتلاهما رميا بالرصاص.
وصدم مقتل الشاهدين المقاطعة وأدى إلى حملة قمع من قبل السلطات الإيطالية، بينما تحول عدد صغير من رجال العصابة إلى مخبرين، مما ساعد المدعين العامين في بناء قضيتهم، وفقًا لقضاة التحقيق.
وجرى اعتقال المئات من أفراد العصابات المشتبه بهم في السنوات التالية، بتهم تتراوح بين الابتزاز وتهريب المخدرات والأسلحة إلى العضوية في منظمة مافيا.
وقال المدعون إن الاعتقالات أعطت المزيد من رواد الأعمال المحليين الثقة للإبلاغ عن محاولات ابتزاز في العام الماضي مقارنة بالسنوات السابقة.
لكن المافيا الرابعة لا تزال تقاوم، إذ يقول المدعون وأصحاب الأعمال إن موجة الهجمات الأخيرة على الشركات المحلية، والتي تظهر شراسة لم نشهدها من قبل، تظهر أن الغوغاء يحاولون إعادة تهيئة مناخ الخوف الذي سمح لهم بالسيطرة على المقاطعة لسنوات.
قال رئيس الادعاء في فوجيا: “أعتقد أنها علامة على حيويتهم، فرغم أننا مارسنا الكثير من الضغط عليهم، لكنهم ما زالوا نشيطين للغاية، وهذا أمر يبعث على القلق”.
ولفت إلى إن تطبيق سلطات تطبيق القانون في فوجيا تعاني من نقص في الأعداد، مشيرا إلى أن إن فريقه المكون من 25 مدعيًا يحتاج إلى المزيد من الموظفين، قبل أن يضيف: “لكن من الصعب إقناع الناس بالتقدم إلى هذا من نوع الوظائف في هذا المنطقة”.
في منتصف ينايرتضاعفت التفجيرات والحرق المتعمد، مما دفع وزيرة الداخلية الإيطالية، لوسيانا لامورغيس، إلى عقد اجتماع طارئ في فوجيا مع رؤساء الشرطة والمدعين وأصحاب الأعمال المحليين.
وقالت لاموغيس في الاجتماع: “على الدولة أن تجعل حضورها محسوسًا بطريقة قوية وحاسمة وموحدة”، ووعدت بإرسال 50 شرطيًا إضافيًا إلى فوجيا.
وغالبًا ما تتبع الأحداث التي أدت إلى هجمات المافيا نفس السيناريو، فأولاً يتلقى أصحاب الأعمال طلبًا للحصول على أموال الحماية.
وإذا تجاهلوا تلك التهديدات أو أبلغوا عنها يجري بعد بضعة أسابيع تخريب محالهم أو حرقها، وفقًا لرئيس جمعية مكافحة الابتزاز في فوجيا، أليساندرو زيتو، وهي مجموعة تم إنشاؤها في يناير لدعم رواد الأعمال.
“مجرد مزاح”
وقال مصفف شعر من المنطقة إنه تلقى أول رسالة لدفع مبلغ 250 ألف يورو في أكتوبر، بيد أنه تجاهلها، على أمل أن تكون مزحة، ولكن بعد أيام قليلة تلقى نفس الرسالة.
وفي منتصف شهر يناير، انفجرت قنبلة عند مدخل صالون تصفيف الشعر الخاص به، مما أدى إلى اشتعال النار في الأثاث وبخاخات الشعر بالداخل وتدمير الصالون، ليقدّر المالك أن إعادة بنائه ستكلف ما يصل إلى 160 ألف يورو.
وقد أبلغ المزيد من رواد الأعمال عن تهديدات رجال العصابة للشرطة، لكن كثيرين آخرين يختارون التزام الصمت ودفع “البيتزا”، وهنا يقول رئيس الإدعاء: “يؤسفني أن أقول هذا، لكن الناس هنا لم يكونوا متعاونين للغاية”.
ومن بين الذين رفضوا الانصياع لطلبات المافيا مزارع يدعى، لازارو دوريا، موضحا أنه في العام 2017 كان وحيدًا في أحد حقول الطماطم عندما كان محاطًا بعشرة من رجال المافيا.
وعلى مدى العامين الماضيين، رفض مرارًا وتكرارًا تلبية طلب المافيا بدفع أموال حماية سنوية بقيمة 200 ألف يورو، مشيرا إلى أن رجال العصابة هددوا بإلحاق الأذى به وبعائلته، لكنهم خفضوا طلبهم إلى 150 ألف يورو في السنة، دون أن يوافق ليقرر أن يبلغ الشرطة.
ومنذ ذلك الحين يعيش دوريا تحت حماية الشرطة بعد أن شهد في محاكمة أدانت خمسة من المافيا الذين هددوه.
ولكن الغوغاء لم ينسوه، وقال إنه خلال السنوات الست الماضية تعرض لست تفجيرات و 15 سرقة وتخريب لآلات زراعته، مردفا “في البداية فكرت في إغلاق مزرعتي ومحلي، ولكن بعد ذلك قلت لنفسي: لماذا يجب علي التخلص من كل ما صنعته خلال 25 عامًا؟”
في بعض الحالات، هاجمت المافيا الشركات دون سابق إنذار أو مطالبة بالمال، وهنا يقول المدعون إن مثل هذه التكتيكات جزء من جهود العصابات لإظهار قوتهم وإعادة تأكيد سيطرتهم على المنطقة.
وفي حالات أخرى، قد يكون مجرد تخريب بسيط تلميحًا إلى أن صاحب المشروع يجب أن يبحث عن المافيا ويدفع مقابل الحماية، ولكن داريو ميليللو رفض مما أدى إلى تدمير منتجعه الشاطئي بهجوم حريق متعمد في أواخر يناير.
وقال إن التلميح الوحيد السابق على أن المافيا كانت تستهدفه ظهر في الصيف الماضي، عندما قام شخص ما بثقب خزانات المياه البلاستيكية بالمنتجع، ليسارع إلى تبليغ الشرطة.
وقال ميليللو، وسط الأنقاض في منتجعه: “كان طموحي الوحيد هو أن أكون قادرًا على العمل بطريقة شريفة، وهذه ليست رسالتي وحدي إنها رسالة كل شخص في هذه الأرض”.