عبدالحميد البجوقي…..
مهما كان هامش الخطأ في التقدير لا يسعني إلا أن أعترف بالهزيمة وبانتصار مقاربة الدولة العميقة في تدببير ملف الهجرة ، وبنهاية التاريخ، أعني تاريخ الصراع من أجل امتداد الوطن عبر ابنائه في باقي المعمور، وامتداد شبكات الدفاع عن الوطن وعن مصالحه من خلال أبنائه المقيمين في الخارج.
لم تعد ذكرى المسيرة الخضراء موعدا لقرارات دأب الملك الاعلان عنها في خطاب المناسبة. تراكمت الاحباطات وتناسلت المؤسسات التي أوكلت لها الدولة شأن مغاربة الخارج وماتت معها أحلام بمرحلة جديدة وعلاقة متميزة بين الدولة ومواطنيها في الخارج.
أين هي المؤسسات المعنية بتدبير شأن الهجرة والاهتمام بمصالح وحاجيات مغاربة الخارج، أينها الوزارة المنتدبة، وأين هو مجلس الجالية المنتهية صلاحيته وأين هي الامال التي علقتها الهجرة على تأسيسه المُعاق، أيننا من خطاب المسيرة الخضراء سنة 2005 ومن حماس اللحظة التي فجرتها دينامية التاسيس. ـ لا أنكر أن بعض المسؤولين وثلة من العاملين في مجلس الجالية يجاهدون بالنفس والنفيس لتدبير اليومي من مصالح الجاليةـ.
مرت مياه كثيرة وجارفة تحت الجسر تاركة وراءها طابورا من المُحبطين، وآخر من المُلتحقين بما يرونه مكسبا للعيش، وقلة من الحالمين بغد أفضل تتلاحم فيه الجالية بالوطن، كلهم عانقوا خطابات الأمل وشعاع لحظة أجمع الاعلام على تسميتها بالانتقال الديموقراطي وبالمصالحة، كلهم انخرطوا فيما أسماه الاعلام الرسمي بورش الاصلاح والديموقراطية وووو. بعضنا تشبث ببرغماتية بمبادئ كانت أساس انطلاق مسارنا نحو الوطن، وهذا ليس اتهاما للآخرين بالتنازل عن مبادئهم ولا بالتنكر لها، بقدر ما هو توضيح لحيثيات انخراط مختلفة وتقديرات متباينة تحمل في طياتها نسبية الخطأ والصواب.
بعد هذا التوضيح الضروري لرفع اللبس وتلافي الخوض في خطاب التخوين أو كيل الاتهامات لهذا أو ذاك، وبعد وضع الموضوع في إطاره والأشخاص كل من زاويته وبتقديره وفهمه للتطور، أستسمح القارئ المهتم بهذا الموضوع لطرح سؤال اللحظة.
ماذا تحقق من مطالب مغاربة الخارج مند انطلاق مسلسل الانتقال الديموقراطي وبالضبط منذ حكومة التناوب؟
أغلبية واسعة من الجالية وككل المغاربة كانت تحلم بالحرية وبالديموقراطية وبالعدالة الاجتماعية، ونخبة واسعة من مغاربة الخارج كانت تحلم بالمشاركة في بناء مغرب جديد وكانت تطالب بمؤسسات تضمن إشراكها في بناء الوطن الجديد وفي تدبير شأنها ومتابعة شؤونها ورفع الحيف عن أبنائها.
الأجواء العامة بعد انطلاق الألفية الجديدة كانت تصدح بالآمال وبالطموح وبالحماس الذي تأجج بعد خطاب المسيرة الخضراء سنة 2005، ولم تتردد أغلب الأطر المناضلة وغيرها على اختلافها في التجاوب مع الخطاب ومع مبادرة الدولة في إطلاق المشاورات وبناء مؤسسات معنية بعلاقة الهجرة بالوطن، وشغل حينها موضوع الهجرة والمهاجرين حيزا متناميا من خطاب الدولة الرسمي مُنتقلا من الحديث عن “رعايانا في الخارج” إلى الحديث عن “المواطنين المغاربة في الخارج” ، وأُدرجت قضايا الهجرة ضمن ملفات هيأة الانصاف والمصالحة، التي أشارت صراحة في تقريرها الدائع الصيت إلى نصيب المهاجرين الوافر من الإرث الثقيل لسنوات الرصاص، ودورهم البارز في فضح الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان، وتوصيتها بجبر ضرر المناضلين والمناضلات من المهاجرين واللاجئين ضحايا تلك الانتهاكات.
بعدها انطلق بشكل واعد مسلسل من المشاورات والمناظرات العبر وطنية والندوات، وحمى من اللقاءات والمساهمات، وانحصرت أغلب الخلافات في الشكل والتدبير ، ولم تكن بعض التعثرات لتؤثر في مسار هذه الدينامية المؤسساتية والحقوقية ، ورغم استمرار بعض التماطل في تفعيل الحقوق السياسية والولادة المُعاقة لمجلس الجالية، تشبثت أغلب الأصوات بهذه المؤسسة واعتبرتها مكسبا يجب تطويره وتقويته وركز البعض في نقده على الجانب التدبيري مطالبا بإصلاحات جوهرية لإنقاد التجربة.
ثماني سنوات بعد ذلك تكللت بفتور غير مسبوق وبشعور عارم من الاحباط وبمجلس ينضاف إلى طابور المؤسسات المعنية بالهجرة ،كلها جامدة ومشلولة وغير قادرة على تجديد هياكلها المنتهية صلاحيتها بحكم القانون.
ماذا بقي من الحلم وكم هو رصيدنا من الأمل الذي انطلق بفائض من الحماس مع بداية الألفية؟
مرة أخرى تصطدم إرادة الناس “عامة الناس” ،بإرادة الساسة وإرادة الدولة، ومرة أخرى تتحايل بعض الجهات وتتحالف ضد مصالح العامة التي هي في العمق من مصالح الدولة، ومرة أخرى يتعرض الأمل لإجهاض مقصود مع سبق إصرار وترصد، ومرة أخرى نتأخر بمعدل جيل كامل عن موعدنا مع التاريخ، وأعني تاريخ امتداد الوطن عبر مواطنيه في كل المعمور.
هامش الخطأ وارد في تعاطينا بحسن نية مع مبادرة الدولة في علاقتها بالهجرة، لكن هذا لا يعني أننا أخطأنا في الاختيار ولا أن المبادرة بكاملها كانت مؤامرة، كما أن مسؤولية الفشل لا تتحملها الدولة لوحدها ، و كما في الدولة جيوب للمقاومة حماية لبعض المصالح، في المجتمع كذلك وفي أوساط مغاربة الخارج جيوب للمقاومة حماية لبعض المصالح الضيقة، وبقدر ما هناك من عناصر وأطراف من الجالية انخرطت بحسن نية في البناء ، هناك أطراف وعناصر في الدولة وفي كل مؤسساتها انخرطت بحسن نية في دينامية البناء ولا شك أنها حصدت كذلك نصيبها من الاحباط.
عين الصواب أن يتحالف ذوي النيات الحسنة من الطرفين لإنقاد هذه التجربة وإعادة الأمل لملايين المغاربة المقيمين في الخارج.