بقلم : رشيد أركمان…
إن ما يحدث داخل جسم الأمن الوطني يستحق وقفة تأمل حقيقية وإعادة النظر في المنظومة الأمنية ككل لقرع ناقوس الخطر الذي يتهدد أحد أهم الأجهزة الأمنية المسؤولة عن ضمان أمن وسلامة الوطن والمواطنين والحفاظ عن ممتلكاتهم وذلك من خلال إنتشار “فيروس” الإنتحار والانتقام في صفوف عناصرها.
هذا ما أدى إلى إجتماعات ماراطونية للإدارة العامة للأمن الوطني وإتخاذ التدابير الوقائية ودراسة الوضع من شقيه الإجتماعي والإقتصادي وأجرأة إمكانية وضع الأسلحة الوظيفية بدواليبها المؤمنة داخل الإدارة كإجراء أولي للحد من الظاهرة…
متناسية أن الواقع الإجتماعي يساعد في تسهيل القيام بالأفعال الإجرامية من خلال توفير الآليات في الأسواق والمتاجر كبيع الخناجر الحبال والسيوف والسموم…إلخ دون حسيب ولا رقيب.
ولحل الأزمة يجب على الإدارة رد الاعتبار لرجل الأمن الرتب الدنيا…
حيث المشكل ليس في أداة تنفيذ الجريمة أكثر ما هو في المنفذ، ولذلك فكل الحلول المقترحة يجب أن تنصب على المعنيين لا على الأدوات التنفيذية من خلال معالجة أوضاعهم الإدارية وتحسين ظروف عيشهم…
وقبل إنتقاد عمل رجال الشرطة نعلم أننا نتحدث عن جهاز يفوق عدد أفراده ستين ألف عنصر، الأغلبية الساحقة منهم تعيش على راتب شهري لا يتعدى خمسة آلاف درهم. إنها قبيلة رجال الأمن التي يشتغل بمعدل واحد لحماية 8500 مواطن مغربي.
هذه طبقة من الموظفين قلما نستمع إلى شكواها، وغالبا عندما يتم ذكر إسمها، فإن ذلك يكون مقرونا إما بتجاوزات أو إعتداءات، أو أخبار تتعلق بإنتحار أحد أفرادها.
السؤال المؤرق الذي يطرحه أي شرطي متخرج من معهد الشرطة، هو هل يجب على رجل الأمن أن يكون مرتشيا ومتسولا ؟ لكي يستطيع تحدي إكراهات الحياة المعاصرة ويعيش بسلام مع أسرته ورؤسائه في العمل ؟؟ ، أم يجب عليه أن يكون شريفا ؟ ويكتفي بما يحصل عليه كأجرة وتعويضات لا يمكن أن تغطي مصاريفه ومصاريف أسرته إلا بصعوبة بالغة ؟
هناك رجال أمن يلتحقون بعملهم لأول مرة وهم من نفس الفوج، ويحصلون على نفس الأجرة، ولكن بعد بضع سنين يبدأ الفرق بين بعضهم البعض يظهر في حلة جديدة مع تسمين راتبه الشهري والإستفادة من الإمتيازات عكس الطرف المغضوب عنهم لم يتمكنوا حتى من إقتناء دراجة نارية…
تسابق محموم بين بعض رجال الأمن لكي يؤمنوا، كما يعتقدون، مستقبلهم ومستقبل أبنائهم، وما إن يتم وضع أحد منهم في الثلاجة أو إزاحته عن مكانه أو محاصرته من خلال المراقبة اللصيقة، حتى يفقد رشده ويبدأ في ضرب الأخماس في الأسداس ليحافظ على الوتيرة التي كان يسير عليها، وإلا فإن الوساوس ستهاجمه وستحاصره أسئلة الزوجة وتتراكم عليه طلبات الأبناء، فلا يجد بدا من تقبيل الأيدي والأرجل ودفع الرشاوي ليعثر على كرسي يضمن له دخلا مريحا.
رجال الشرطة الذين إنتحروا مؤخرا ليسوا أول من ينتحر، بل كثير منهم إنتحروا قبلهم وآخرون ينتحرون يوميا، ولكن بطرق مختلفة. وكل هذا بسبب بعض رؤوس الفساد التي حولت إدارة الأمن إلى إقطاعيات خاصة تتصارع فيها مجموعات الموالون للتسيير والمعارضون له.
وضمنهم عرابون هنا وهناك …
وحتى لجان التفتيش، التي توزع العقوبات على عدد من رجال الأمن لأسباب بعضها وجيه ، وبعضها الآخر تتحكم فيه دوافع أخرى تعطي انطباعا ، بأن هناك مراقبة وتتبعا لسير مصالح الأمن ذرءا للمؤاخذات.
وللوقوف على هذه الإختلالات فعلى لجان المراقبة، أن تقوم بزيارة دوائر الشرطة بطريقة مفاجئة لتفحص الملفات المتراكمة لديها، ونفس الشيء بالنسبة إلى مصالح الشرطة القضائية، وطرح أسئلة وجهية على المرتفقين و الموظفين، وهو لماذا أنجزوا ملفا توصلوا به منذ في نفس الوقت ؟ لانهالت عليهم دموع الفوضى وشكايات التماطل التي ينهجها المسؤولون في بعض الملفات التي تعود لاقربائهم وذوي النفوذ ؟
دون أن نتحدث عن الإجراءات التأديبية ومعاقبة صغار رجال الشرطة فهو جدار سهل التخطي ورياضة إنتقام تجيدها أقلام كبار المسؤولين الأمنيين، حيث يكفي أن ينجز أي مسؤول أمني برقية تلكس لا تتعدى بضعة أسطر وبعثها إلى الإدارة المركزية بالرباط حتى يأتيه الرد بالإيجاب دائما، وفي زمن قياسي، وأحيانا دون الإكتراث لفتح تحقيق في الموضوع.
وهذا الوضع يحيلنا إلى قصة ضابط «التوين سانتر» بوسط الدار البيضاء، والذي تم تصويره يتسلم رشوة، فهذا الضابط كان يعمل مؤطرا يعطي دروسا تكوينية يستفيد منها خريجي معاهد الشرطة، وقد ظل لسنوات يعمل بمدارة «التوين سانتر».
لهذا وعملا بمبدأ الوقاية خير من العلاج ، فقد كان المفروض أن يتم فتح تحقيق في نقطتين أساسيتين :
أولا، حول معايير إختيار المؤطر الذي توكل إليه مهمة إعداد رجل أمن بكل ما تحمله الكلمة من معنى، رجل أمن يتمتع بالوقار والهيبة وعزة النفس.
ثانيا، البحث عمن يتحمل مسؤولية «توريث» بعض المدارات وبعض النقط الحساسة لأسماء مُعينة،
وفتح تحقيق في الموضوع، هل من الضروري التذكير بأن فاجعة شرطي مشرع بلقصيري التي أجهز فيها الشرطي البلوطي على ثلاثة من زملائه، كانت بسبب إحتجاجه على آفة توريث والمساومة للحصول على مهمة العمل بالسدود القضائية والحواجز الأمنية، التي يعتبرها بعض رجال الأمن البقرة الحلوب التي تدر عليهم مبالغ مالية هامة ؟
قليلون يعرفون أن جهاز الشرطة هو الجهاز الوحيد من بين مجموع القوات العمومية المغربية ،الذي أفرجت إدارته شهر فبراير 2015 عن لوائح الترقية الخاصة بسنة 2013، وأن نسبة كبيرة ممن إستفادوا من هذه الترقية هم إما محالون على التقاعد أو غادروا هذه الدنيا إلى الدار الآخرة.
كما أن قلة قليلة فقط تعرف أن نظام الترقية في جهاز الشرطة هو أحد أكثر الأنظمة إجحافا، حيث يلزم رجل الأمن 6 سنوات من الخدمة الفعلية كي يمكن إقتراحه للإنتقال إلى الرتبة الموالية، ومرحلة إقتراح إسمه لا تعني حصوله أوتوماتيكيا على هذه الترقية، والدليل على ذلك كون ما يقارب 70 في المائة من الحالات لا تستفيد من الترقية رغم قضائها 6 سنوات من الخدمة الفعلية، أي ببساطة يمكن أن يقضي الشرطي 10 سنوات في الخدمة قبل أن يحصل على الترقية.
وللإشارة فقط فوالد فنانة أمازيغية أحيل على التقاعد برتبة ضابط أمن قبل سنتين تقريبا، واليوم رقي إلى رتبة ضابط ممتاز، وهو مثال حي على هذه الإشكالية التي يجب حلها.
حوادث إنتحار بعض رجال الأمن وجرائم القتل التي يرتكبها البوليس ضد الأصول والفروع وكذا زملائهم، والتي وقعت مؤخرا بالدار البيضاء وبلقصيري والقنيطرة لا يمكن أن تكون عادية، وللكشف عن أسباب هذه الحوادث يتوجب على المديرية العامة للأمن الوطني، وكل فئات المجتمع الإقتراب من رجل الأمن ومحاورته والإستماع إليه ومنحه مساحات بوح حرة، لكن وفي ظل إنعدام آفاق الحوار والتواصل يبقى الأمل ضعيفا في الحد، أو حتى التقليل من هذه الحوادث.
وفي موضوع رشوة رجال الأمن هناك حلقة مفقودة هي المواطن، أليس المواطن هو من يفضل أداء 100 درهم كرشوة عوض أداء 700 درهم تذهب إلى صناديق الدولة ؟ أليس المواطن هو من ينعت المرتشون بـ«أولاد الناس»، بينما يرشق النزيه الذي لا يقبل التنازل عن تحرير المخالفات المرورية، بالمعقد والعكسي وغير ذلك من النعوت القدحية ؟
إن المواطن يتحمل مسؤولية كبيرة في إستفحال ظاهرة الرشوة، ويجب على المجتمع علينا كمجتمع مدني أن نقِر بهذه الحقيقة، وأن نطرحها على طاولة النقاش عوض الإختباء وتعليق المسؤولية على مشجب الطرف المُتَلقي للرشوة، كيفما كان شخصه ومنصبه .
إن جهاز الشرطة يكاد يكون الجهاز الوحيد الذي يعمل طوال 24 ساعة دون تحفيزات، وإذا أخذنا بعين الإعتبار حجم المبالغ التي تحصل عليها الدولة عن طريق الشرطة ، والمقدرة بملايين الدراهم يوميا، فإن حرمان البوليس من تحفيزات مالية وعينية يعد تنقيصا وتحقيرا لمجهودات هذه الفئة. فبالإضافة إلى المنتوج الأمني الذي يقف وراءه البوليس المغربي، والمتمثل بالأساس في ضمان سلامة وأمن الأشخاص والحفاظ على ممتلكاتهم والسهر على ضمان السكينة والأمن البيئي والروحي.
إن الأجهزة الأمنية تقوم بإستخلاص غرامات ومخالفات مالية لصناديق الدولة دون أن تخصص أي نسبة لرجال الشرطة مثلما يحدث في بقية دول العالم، ناهيك عن عمليات حجز السلع والبضائع والمنقولات والعربات والعملة الصعبة، والتي تذهب كلها إلى خزينة الدولة دون أن تخصص منها نسب مئوية لرجال المديرية العامة للأمن الوطني.
ولو أن هذا القانون كان مطبقا على جميع الأجهزة لهان الأمر، فهناك أجهزة أخرى تستفيد من منح وتحفيزات في مثل هذه العلميات، رجال الجمارك وأطروموظفي وزارة المالية وغيرهم على سبيل المثال…
لذلك فما يتوجب على المديرية العامة للأمن الوطني فعله اليوم هو الإستماع إلى رجال الشرطة والإنصات إلى مشاكلهم ، وفتح قنوات الحوار معهم وأخذ مقترحاتهم بعين الاعتبار.
فسوط العقوبات والإهمال الذي تواجه به مديرية الأمن رجال الشرطة من جهة، والنظرة الدونية التي ترسخت في أذهان المواطنين تجاههم من جهة أخرى، تجعلهم يحسون بالغبن، خصوصا عندما يرون كيف تعرضت شرطية زميلة لهم للدهس بسيارة أحد أبناء أثرياء طنجة، فحصل الإبن المدلل على السراح بعد دفع كفالة، رغم سوابقه العدلية في السياقة بدون رخصة وتعنيف رجال الأمن…دون أن نتحدث عن زوجة وزير الشغل التي دهست قدم شرطي بالقنيطرة فحصلت على التنازل بعد تدخل زوجها الوزير.
لذلك فالرصاص الذي ينتحر به رجال الأمن أو يصيبون به زملاءهم ليس سوى «رصاص إنذار» يجب أخذه على محمل الجد، حتى لا يتحول الإنتحار إلى هواية جديدة عند رجال الشرطة، الذين نعول عليهم لضمان أمننا وأمن أبنائنا.