يونس دافقير
في الموقف الجديد لإسبانيا من الحكم الذاتي هناك تفصيل صغير، تكاد لا تلحظه عين القارئ المتصفح، لكنه تفصيل جوهري ومهم جدا، هذا التفصيل يجعل الموقف الاسباني اليوم أكثر تقدما من موقف فرنسا وألمانيا.
في هذا الموقف الإسباني الجديد هناك حرفان تطلبا اسابيع طويلة من التفاوض، إنهما حرفا “الألف” و”اللام” والذين تشير قواميس اللغة العربية إلى أنهما يلتقيان ليصبحا أداة تعريف : “ال…”.
في الموقف الإسباني الجديد لا نقرأ أن الحكم الذاتي “أساس” بل نقرأ أنه “الأساس”. إنها ترد هنا على سبيل الحصر الذي يحصر تعددية الخيارات وليس على سبيل التعريف فقط.
لنفهم ذلك جيدا ينبغي أن نعود إلى التصريحات الفرنسية على سبيل المثال، هي تستعمل في الثناء على الحكم الذاتي “قاعدة” أو “أساس” مجردين من التعريف. وهذا يعني في اللغة الديبلوماسية، أنه من الممكن أن تكون هناك خيارات أخرى غير الحكم الذاتي.
ليس ذلك مجرد لعب بالكلمات، أو حشو زائد لأحرف التعريف، فإضافة “ال …” تطلب مفاوضات طويلة، وتوقفا لهذه المفاوضات قبل استئنافها.
الصيغة الإسبانية التي اقترحت في البداية للإشارة إلى الحكم الذاتي هي ” une base” وهي لا تختلف عن الموقف الفرنسي المتأخر، ولذلك لم تقنع المغرب الذي تشبت بصيغة أكثر تقدما هي “la base” ، لكن اسبانيا ستعود إلى اقتراح “comme base” وبدورها لم تقنع المغرب، وفي النهاية قبلت مدريد صيغة ” la base” .
ولوضوح أكثر لمن لم ينتبه لأدوات التعريف، وكي لا تكون مجرد مصادفة لغوية، يضيف الموقف الإسباني، من باب التأكيد على تلك “ال…” أن الحكم الذاتي هو ” الأكثر جدية وواقعية وموضوعية”
ولذلك يبدو الموقف الإسباني اليوم أكثر تقدما في الحكم الذاتي من الموقفين الفرنسي والألماني.
لماذا تمسكت الديبلوماسية المغربية بهذه الصياغة؟
كان بالإمكان طي التوتر المغربي الإسباني مباشرة بعد الخطاب الملكي الذي مد فيه يد المصالحة لإسبانيا، لكن المغرب لديه اليوم مفهوم جديد لوضعية “الأزمة”، ويمكن أن نسميه ب”الأزمة المنتجة” أو “الأزمة كفرصة”.
هذا التصور هو ما جعل الديبلوماسية المغربية لا تنظر لهذه الأزمة كعبء ينبغي التخلص منه أو الخروج منه بسرعة، بل يتم تدبيرها بهدوء كما حدث مع ألمانيا ومع فرنسا قبل ذلك، وحتى في الوضع الأوكراني ….
يقوم هذا التصور على أن تجاوز الأزمة يقتضي تغيير المعطيات التي تسببت فيها، وإغلاق كل المنافذ التي يمكن أن تعود منها، ولذلك كان يمكن تجاوز الأزمة بالجمل الديبلوماسية العامة أو عقب التوجه نحو عرض زعيم البوليساريو أمام القضاء …
باختصار، الخروج من الأزمة سهل، لكن الصعب هو تغيير عناصر الأزمة كي لا تتكرر، وتلك كانت مقاربة الرباط.
وفي هذا لعبت أداة التعريف “ال…” إلى جانب “الأكثر جدية” دور إغلاق منافذ العودة إلى الأزمة مرة أخرى بسبب الصحراء.
والجديد أيضا أن الموقف الاسباني يكاد يتطابق مع الموقف المغربي في أنه لا خيار ٱخر إلا الحكم الذات
ليس هذا فقط ما يجعل الموقف الاسباني الجديد مهما، وزن اسبانيا في ملف الصحراء يجعلها أكثر أهمية من عواصم أخرى، فلمدريد معرفة تاريخية بالملف لأنها قوة محتلة سابقة وهي معقل ثان للبوليساريو بعد الجزائر. فضلا عن ذلك اسبانيا من المساهمين في صياغة قرارات مجلس الأمن، وهي مرجع لعدد من الدول في صياغة موقفها.
وهذا التغيير في الموقف الاسباني، يجلب معه زبناء جدد للحكم الذاتي، أولئك الذين يتبعون موقف مدريد، ومن شأنه أن يضغط على الموقف الفرنسي الذي صار متقادما.
لماذا تغير الموقف الإسباني؟ إنه نفس السؤال الذي يمكن أن نطرحه حول سر التحول في الموقف الألماني. لكن المؤكد في الحالتين معا، هو أن اسبانيا وألمانيا تقرٱن مصالحهما المستقبلية في ضوء الحالة الأوروبية الراهنة و التحولات الجارية في العالم، بينما فرنسا ماتزال متخلفة، وذلك موضوع آخر سأعود إليه بشكل مستقل.