رئيسة وزراء بريطانيا القادمة تُهَدِّد باستِعدادها لاستِخدام الأسلحة النوويّة ضدّ روسيا.. هل تستطيع؟ وهل يرد عليها بوتين بالابتِسام؟ وما هي الاحتِمالات الثلاثة لانفجارِ حربٍ نوويّة وشيكة؟ إليكُم تجربة شخصيّة تُجيب عن بعض الأسئلة
عبد الباري عطوان
فُوجِئت بشَكلٍ صادم بالتّصريحات التي أطلقتها السيّدة ليز تراس وزيرة الخارجيّة البريطانيّة والأفضل حظًّا، حسب استِطلاعات الرأي، لخِلافة بوريس جونسون كرئيسةٍ للوزراء، فُوجِئت بالتّصريحات التي قالت فيها إنها ستكون على استعدادٍ لاستخدام الأسلحة النوويّة ضدّ روسيا في حالِ الضّرورة، وأضافت “أعتقد أن هذا واجبٌ مُهم لرئيس الوزراء”.
التّهديد باستِخدام الأسلحة النوويّة، وعلى لِسان السيّدة تراس التي تُريد أن تكون مارغريت تاتشر ثانية، يعكس جهلًا استراتيجيًّا وسياسيًّا، فحتّى الولايات المتحدة التي تتزعّم الحرب في أوكرانيا لم تُلوّح بهذا الخِيار حتى الآن على الأقل، مُضافًا إلى ذلك أن الدول الغربيّة النوويّة الثّلاث أمريكا وفرنسا وبريطانيا تعهّدت في بيان أصدرته قبل أيّام بأنها مُلتزمة بالإعلان الصّادر قي 3 كانون الثاني (يناير) عام 2022 بأهدافِ منْع الحرب النوويّة وتجنّب سباق التسلّح “لأنّه لا يُمكن لأحد الانتِصار في هذه الحرب والجميع خاسر، ولهذا يجب عدم خوضها أبدًا”، والشّيء نفسه قاله الجِنرال سيرغي شويغو وزير الدّفاع الروسي أمس عندما قال: لسنا في حاجةٍ إلى استخدامها في أوكرانيا وإن ما يتردّد حول نشر أسلحة نوويّة مُجرّد “أكاذيب”.
والأهم من كُل ما سبق أن رئيس الوزراء البريطاني ليس هو الذي يتّخذ قرار الحرب والسّلام، ناهِيك عن استِخدام أسلحة نوويّة، فهُناك حُكومة مُوازية سريّة (الدّولة العميقة) هي التي تتّخذ مِثل هذا القرار، وما على رئيس مجلس الوزراء البريطاني غير التّنفيذ فقط.
***
أقول هذا الكلام بناءً على تجربةٍ شخصيّة عرفت تفاصيلها بالصُّدفة، فبعد الغزو الثلاثيني للعِراق في آذار (مارس) عام 2003، وسُقوط الدّولة واحتِلال العِراق، نظّمت كليّة سانت أنتوني في جامعة أكسفورد مجموعة من النّدوات حول انعكاسات هذه الحرب على مِنطقة الشّرق الأوسط والعالم سياسيًّا واقتصاديًّا وأمنيًّا، وكُنت مُتحدّثًا في إحداها إلى جانب الزّميلة بريجيت كندل، المُحرّرة الدبلوماسيّة في كُل قنوات شبكة BBC العِملاقة.
بعد أن فرغنا من المُحاضرة، والأسئلة والأجوبة، ذهبنا إلى “الطّاولة العُليا” (High Table) في مطعم الجامعة لتناول العشاء، واعتقدت أنها أخذت هذا التّوصيف بسبب علوّها عمّا عداها من طاولات، واكتشفت سذاجتي عندما عرفت أنها تستمدّ هذا الوصف (العُليا) من مكانة الجالسين عليها، وهُم رئيس الجامعة ومجموعة من عُمداء الكُليّات الأُخرى، ونَحنُ الضّيفان، وأجلسوني قُبالة رئيس الجامعة على ما أذْكُر.
الرئيس قال لي بلكنته الإنجليزية الإكسفورديّة الملكيّة، إنه أُعجِب بمُداخلتي “الحماسيّة” و”العفويّة”، ولكنّه يختلف معي في نُقطةٍ أساسيّة، وهي قولي إن توني بلير رئيس الوزراء في حينها أخطأ بذهابه مع أمريكا إلى حرب العِراق، لأنّ التّحالف سيُواجه مُقاومةً عِراقيّة شَرِسَة وسينسحب مهزومًا من العِراق.
سألت رئيس الجامعة إذا كان رئيس الوزراء المُنتَخب ومُمثّل الحزب الحاكم لم يتّخذ قرار الحرب فمن اتّخذها؟ ابتسم وقال نحن “المُؤسّسة”، فمُنذ هزيمة حرب السّويس التي خسرنا فيها ما تبقّى من الامبراطوريّة البريطانيّة، وذهبنا إليها دُون رَغبة ومُوافقة أمريكا، قرّرنا أن نكون في الخندق الأمريكي في جميع حُروب المُستقبل وهذه القاعدة تنطبق على الحرب في العِراق، وأيًّا كان رئيسًا للوزراء سيلتزم بها وقرارنا في هذا الشّأن.
وبناءً على ما سردته سابقًا أستطيع أن أجزم أن السيّدة تراس لن تستطيع اتّخاذ قرار استِخدام الأسلحة النوويّة بمُفردها حتى لو وصلت مقرّ رئاسة مجلس الوزراء في بريطانيا، ليس لأنّها لن تكون سيّدة حديديّة أُخرى، وإنّما لأنّها ليست صاحبة قرار، وإنّما مُنفّذة فقط، وتهديداتها هذه فارغة من أيّ مضمون، وضَحِكٌ على ذُقونِ البُسطاء النّاخبين في حِزبها، وحتى إذا فازت فلن يكون هذا الفوز إلا انعِكاسًا لرغبة، وربّما إرادة الدّولة العميقة.
نعم الجميع سيكونون خاسرين في أيّ حربٍ نوويّة عالميّة على أرضيّة الحرب الأوكرانيّة الحاليّة، ولن يكون هُناك مُنتصر، فهُناك سبعة آلاف رأس نووي في التّرسانة النوويّة الروسيّة، وربّما ضِعفها مرّتين في التّرسانات الثلاثيّة الأمريكيّة البريطانيّة الفرنسيّة، ولا نَنْسى في هذه العُجالة الترسانة النوويّة الصينيّة، ممّا يعني دمار العالم بأسْرِه إذا انطلقت الشّرارة المُفَجِّرة للحرب.
***
هُناك ثلاث احتِمالات لنُشوبِ حربٍ نوويّة سواءً على أرضيّة التوتّر المُتصاعِد في الحرب الأوكرانيّة أو غيرها:
الأوّل: سرقة، أو تسرّب، أسلحة أو مواد نوويّة إلى جماعةٍ إرهابيّة تستخدمها في شنّ هُجومٍ على مُدُنٍ كُبرى مُزدحمة بالسكّان.
الثاني: إطلاق صواريخ نوويّة بطَريقِ الخطأ، نتيجة خللٍ فنّيّ، يتبعه إنذار بالتعرّض لهُجومٍ ينبغي الرّد عليه.
الثالث: أن تلجأ دولة إلى استِخدامِ أسلحةٍ نوويّة تكتيكيّة صغيرة لشنّ هُجومٍ على مواقعٍ شديدة التحصّن لتدميرها.
في روسيا جرى وضع قوّات الرّدع النووي في حالِ تأهّبٍ مُنذ اليوم الأوّل لدُخول القوّات الروسيّة الأراضي الأوكرانيّة للرّد على أيّ هُجومٍ نوويّ، وليس أمام الطّواقم المُكلّفة بالتّحقيق من الهُجوم سِوى 3 دقائق ومن ثمّ اتّخاذ القرار.
في الولايات المتحدة يُوجد قائد عسكري في مركز القيادة الاستراتيجيّة، وله صلاحيّة تقدير الموقف وإبلاغ الرئيس فَوْرًا، وأمام الرئيس 12 دقيقة للضّغط على الزّر النووي.
باختِصارٍ شديد نَحنُ أمام عتبة أيّام مُرعبة، قد يشهد العالم خِلالها العديد من السّيناريوهات الحربيّة، والحرب النوويّة إحداها، فكُلّ المُتورّطين في الحرب يتطلّعون إلى النّصر وتجنّب الهزيمة ويملكون الإمكانيّات الجبّارة، والأصابع على الزّناد، وخطأ بسيط قد يقود للدّمار الشّامل، وعلينا أن نتذكّر أن الحرب العالميّة الأولى اشتعلت بسبب اغتِيال وليّ عهد النمسا.. واللُه أعلم.