أحمد عزام ..باحث …
أولت “إسرائيل” منذ نشوئها وحتى اليوم إهتماما كبيرا بمصر، ويعود هذا الإهتمام لعاملين أساسيين؛ أولهما: قوة مصر الذاتية بوصفها دولة كبيرة ومتماسكة، وفيها طاقات كامنة وعوامل قوة تجعلها القوة العربية القادرة على الصمود أمام “إسرائيل” والتصدي لها. وثانيهما : دور مصر العربي والإقليمي الذي مكنها من تبوّء العمل العربي المشترك فترة طويلة.
ولم تنه إتفاقية كامب ديفيد من المنظور الإسرائيلي الصراع بين مصر و”إسرائيل”، لكنها منحته شكلاً جديداً؛ فسعت في العقود الأخيرة إلى التقليل من مكانة مصر، وتهميش دوريْها العربي والإقليمي، وتقليص تأثيرها المستقل في تطور الأحداث في المنطقة، وفرض الأجندة الإسرائيلية عليها في ما يخص قضايا الصراع الأساسية في المنطقة، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، وجعلها مقاولاً للسياسة الإسرائيلية تجاه هذه القضية وقضايا أخرى، تحت أغطية “الوساطة” ومكافحة “الإرهاب” والتصدي “للتطرف الإسلامي”.
وساعد “إسرائيل” في تحقيق الكثير من هذه السياسات، وجود حكم في مصر قائم على الفساد والإستبداد، كغيره من أنظمة الحكم في الدول العربية.
فلا عجب أن ناصبت “إسرائيل” منذ اللحظة الأولى العداء للثورة المصرية والثورات العربية الأخرى، وتمسكت بثبات في دعمها لإستقرار نظم الإستبداد والفساد.
فقد أصبحت مصر بفضل مبارك حليفا إستراتيجيا لإسرائيل، ومزودها الأساسي بالطاقة، كما إن مصر ضمنت لها الإستقرار الأمني. لكن أمنيات الإسرائيليين وصلواتهم لم تشفع في إطالة حكم مبارك، فقد خرجت مظاهرات شعبية في 25 يناير 2011 تطالب بإسقاط حكم مبارك، وعندما بدأت المظاهرات الشعبية وإزداد زخمها يوما بعد آخر أصبح الوضع مقلقا وحرجا لإسرائيل إلى أقصى حد.
ومنذ أن إندلعت الثورة المصرية في يناير 2011 هيمنت الخشية على الغالبية العظمى من المسؤولين الإسرائيليين من أن تقود هذه الثورة إلى إقامة نظام ديمقراطي في مصر، وعبر هؤلاء عن الخشية من “خطر” الديمقراطية في مصر بأشكال تنوعت بين الصراحة والإخفاء.
فقادة الصهيونية و”إسرائيل” إعتقدوا وما زالوا أن الديمقراطية والوحدة العربية تعززان من قوة العرب، وتفتحان المجال واسعاً في المدى المتوسط والبعيد لمقاومة “إسرائيل” وربما هزيمتها. إن “إسرائيل” تتخوف من أن تواجه تحولات، قد تكون ثورية ، في بعض الدول العربية، من شأنها أن تستعيد الثقة في خيار المقاومة وأن تجدد الإلتزام بالقضية الفلسطينية كقضية عربية مركزية وإعادة التأسيس لنظام عربي جديد أكثر شعبية. وبالفعل عاشت مصر فترة ديمقراطية لم تشهدها منذ عقود طويلة، أفرزت رئيس من جماعة الإخوان المسلمين وهو محمد مرسي الذي لم يكد يتسلم الحكم وقد بدأت آلة الدولة العميقة دولة مؤسسات مبارك بإفراز سمها على هذا الرجل لتشويه صورته، هذه المؤسسات التي لم يتم إعادة هيكلتها بعد ثورة 25 يناير بل بقيت كما هي بكل مسؤوليها الفاسدين كما أنها كانت سبب رئيسي في إسقاط مرسي بعد عام واحد من حكمه.
لقد أصاب المسؤولين الإسرائيليين بحكومة بنيامين نتنياهو حالة من الإرتباك عقب إعلان فوز الدكتور محمد مرسى مرشح جماعة “الإخوان المسلمين” برئاسة مصر، وسيطرة حالة الخوف من المستقبل على صناع القرار في تل أبيب. وأوضح الإعلام الإسرائيلي أن تل أبيب إستيقظت على شرق أوسط إسلامي جديد بفوز مرسى وباتت أكثر عزلة في المنطقة بعد ضياع نظام كان حليفا لها للأبد وهو نظام الرئيس المخلوع حسنى مبارك، مضيفة أنه بفوز مرسى إزداد المخاوف من إلغاء معاهدة “كامب ديفيد” للسلام مع مصر. وقالت صحيفة “معاريف” الإسرائيلية على صدر صفحتها الأولى “القلق أصبح واقعا.. جماعة الإخوان المسلمين إستولت على مصر”. وقالت معاريف: إن مرسى كان عضوا في اللجنة المناوئة للمشروع الصهيوني، موضحة أن هناك حالة من القلق تسود “إسرائيل” خوفا من تردى العلاقات مع مصر بعد فوز مرشح الإخوان المسلمين. فيما قالت صحيفة “يديعوت أحرونوت” “مصر أصبحت إسلامية”، وأن القصر الرئاسي في القاهرة إرتدى لأول مرة لونا إسلاميا. وأوضحت يديعوت أن حالة من الحرج تسود القيادة الإسرائيلية حيال نتائج الإنتخابات في مصر.
وما يزيد من مخاوف “إسرائيل” من حكم مرسي في مصر هي العلاقات الجيدة بين الإخوان المسلمين وحركة حماس في غزة، فعقب العدوان الإسرائيلي على غزة نهاية عام 2012 أعلن مرسي تضامنه مع غزة علنا، وقال “لن نترك غزة وحدها”، ثم أرسل رئيس الوزراء المصري هشام قنديل إلى قطاع غزة داعما للفلسطينيين. إذاً فقد عاشت “إسرائيل” حالة من القلق طوال فترة حكم الرئيس محمد مرسي. إلا أن هدية مصر لإسرائيل لم تكن متوقعة لقد أبعد حراك 25 يناير حليف إستراتيجي لإسرائيل ومنحت مظاهرات 30 يونيو ما لم تكن تحلم به “إسرائيل” (عبد الفتاح السيسي) الذي إنقلب على الرئيس مرسي في إعلان 3 يوليو 2013.
ولعب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو دوراً رئيسياً في تأمين شرعية دولية للحكم الجديد، من خلال الضغط على إدارة أوباما لعدم التعاطي معه كانقلاب، وعدم المس بالمساعدات التي تقدمها واشنطن للجيش المصري في أعقاب ذلك. ويمكن الإفتراض بأن إستعداد نظام السيسي لتطوير الشراكات مع “إسرائيل” في تل أبيب قد فاجأ قادة حكومة اليمين المتطرف في “إسرائيل” وتجاوز أكثر رهاناتهم المسبقة. ولم يكتفي نظام حكم عربي بالتعاون الأمني والإستخباري مع “إسرائيل”، بل يتجه أيضاً إلى تطوير نسق من التكامل الميداني في مواجهة ما يوصف بأنه “تهديدات مشتركة”. فقد أقر كل من السيسي ونتنياهو بأن مصر سمحت لسلاح الجو الإسرائيلي بتنفيذ غارات في قلب سيناء بهدف القضاء على “الإرهاب”. وعلى الرغم من أن الهدف المعلن من شن هذه الغارات هو تنظيم “ولاية سيناء”، إلا أن موقع “والا” الإسرائيلي كشف أن “إسرائيل” لا تستهدف هذا التنظيم بشكل خاص، بل قوافل السلاح الذي يتم تهريبه إلى المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة.
إن “إسرائيل” تنظر بعين الرضا لما يقوم به السيسي تجاه حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وتدمير مئات الأنفاق التي توصل السلاح إليها، وإعلان الحركة منظمة إرهابية، وإعتبرها عدوة لمصر نظرا لعلاقتها بجماعة الإخوان. كما أن السيسي يرى في إتفاق السلام مع “إسرائيل” كنزا إستراتيجيا، بل إنه تجاوز نظام الرئيس السابق حسني مبارك في إبداء دعم أكبر لعملية التطبيع مع “إسرائيل”. لقد أشادت “إسرائيل” بعلاقاتها مع عبد الفتاح السيسي، وقد وصلت إلي درجة كبيرة من الطمأنينة مع حكمه خاصة أنه يحكم مصر بقبضة أمنية مع زمرة من الفاسدين الذين لا هم لهم إلّا الإستيلاء على مقدرات البلاد لمصالحهم الخاصة، وأغرقوا البلاد في الديون وأشغلوا الشعب في السعي وراء لقمة العيش.
لكن طابع الشراكات التي باتت تربط “إسرائيل” بنظام السيسي لم تحِل دون تعاظم المخاوف داخل تل أبيب من إمكانية تهاوي إستقرار هذا النظام بسبب طابع المشاكل الإقتصادية والأمنية التي تعاني منها مصر في عهده. وهذا ما دفع مدير “مركز يورشليم للدراسات الإستراتيجية” إفرايم عنبار إلى الدعوة، لإعادة بناء الجيش بحيث يتمكن من مواجهة المخاطر التي ستنبعث من الجنوب في حال سقط نظام السيسي. ويبدو أن ما جرى مؤخرا من تحريك للمياه الراكدة، مع ظهور فيديوهات المقاول والممثل محمد على وخروج عشرات من المتظاهرين، مطالبين بإسقاط حكم السيسي في ظل القبضة الأمنية الشديدة التي تُعيد الأذهان إلى ما قبل مظاهرات 25 يناير 2011، وفي ظل التفاعل الشديد على شبكات التواصل الإجتماعي والغضب الذي لو أتيح له الفرصة سينفجر بلا عودة لحكم عبد الفتاح السيسي. هذه الأجواء بدأت تقلق “إسرائيل” حيث رأى الكاتب الإسرائيلي اليميني أرئيل سيغل أنه “في حال عادت الحياة إلى ميدان التحرير، فإن هذا يمثل أخبارا سيئة جدا لإسرائيل”، مؤكدا أن “مؤشرات عدم استقرار نظام السيسي، قد يجعل “إسرائيل” تواجه مجددا سيناريو الرعب الذي خشيته بعد ثورة 25 يناير”.