تساهم بعض الدول عبر أحداث تاريخية في تحولات كبرى في التاريخ الإنساني، وفي الكثير من الأحيان تغيب عن المؤرخ الذي يفتقد للحس الجيوسياسي، قراءة هذه الأحداث، نظرا لطغيان التعامل الجامد مع التاريخ. ومن ضمن الأمثلة البارزة، ما جرى في التاريخ المشترك بين المغرب وإسبانيا خلال الثلاثة عشر قرنا الأخيرة.
وعندما نتحدث عن المغرب وإسبانيا، نعني الفضاءات الجغرافية والشعوب التي لا تتغير كثيرا، بينما يمس التغيير الكيانات السياسية بمفهوم نوعية السلطة، مثل شكل الحكم ونوعية الحاكم، خاصة على مستوى السلالات؛ مثلما هو الحال في المغرب من سلالة حاكمة إلى أخرى كالمرابطين والسعديين والعلويين، هذه الأخيرة التي ينتمي إليها الملك محمد السادس. والأمر نفسه في إسبانيا مع سلالات داستور وبورغونيا وبوربون الحالية التي ينتمي إليها الملك فيليبي السادس.
وتتميز العلاقات بين المغرب وإسبانيا عبر التاريخ، خاصة بعد الفتح بقيادة طارق بن زياد بدينامية التفاعل المتشابك، الذي ساهم أحيانا في تغيير مجرى التاريخ الثنائي؛ بل امتد إلى ما هو كوني. في هذا الصدد، فقد ساهم المغرب في وضع إسبانيا مرتين في الخريطة التاريخية الكونية، بسبب نتائج جيوسياسية هائلة تبلورت في حقبة قديمة، ذلك أن عملية الفتح بقيادة طارق بن زياد سنة 711 ميلادية الموافق لـ92 هجرية، كانت تمهيدا لنشأة حضارة رائعة، وهي الأندلسية، كان لها بالغ التأثير في النهضة الأوروبية وتاريخ الإنسانية خلال الخمسة قرون الأخيرة بفضل ترجمة ونقل العلوم، التي بلغت أوجا في الأندلس، إذ لا يمكن فهم النهضة الأوروبية من دون الحضارة الأندلسية وتأثيراتها العميقة على العلماء الأوروبيين. وكان شمال أوروبا أكثر استفادة من الحضارة الأندلسية، لأن إسبانيا انشغلت بالقضاء على العنصر البشري الموريسكي، بينما عملت دول أخرى على تطوير البحث العلمي والفكري. في الوقت ذاته، رغم وقوع الحروب الصليبية، فالظهور الحقيقي لثنائية الشرق والغرب مرتبط إلى حد ما بحروب الاسترداد التي استغرقت طويلا، وانتهت بسقوط غرناطة يوم 2 يناير/كانون الثاني 1492، وهو التاريخ الرمزي لدى الكثير من المفكرين، كمرجع للحديث عن التأسيس الحقيقي للغرب ككتلة واعية تجمعها الكثير من المميزات والخصائص. ورعت الكنيسة هذه الفكرة، لهذا، فالغرب لا يقوم فقط على مفهوم الحريات، بل الفكرة الدينية كذلك، وساهم سقوط غرناطة في تعزيز هذا الوعي أكثر بكثير من الحروب الصليبية، وتعزز مع سقوط القسطنطينية في يد الدولة العثمانية. وفي حدث تاريخي آخر، يقف وراءه المغرب كذلك ووضع إسبانيا في الخريطة التاريخية للإنسانية، إذ ما كانت ستكون لإسبانيا الفرصة لإقامة إمبراطورية ضخمة في القارة الأوروبية، وكيف استفادت من موارد تلك المنطقة، دون الوقوف عند حدث انتصار الجيش المغربي على البرتغال في معركة وادي المخازن في منطقة القصر الكبير في شمال المغرب سنة 1578. إذ أسفر عن هزيمة البرتغال في وادي المخازن صراع على العرش في الإمبراطورية البرتغالية، واستغله ملك إسبانيا فيلبي الثاني وفرض اتحادا على البرتغال. لو لم تنهزم البرتغال في تلك الحرب، لكان شكل الغرب مختلفا، ذلك أن هزيمة البرتغال هي التي جعلت من إسبانيا إمبراطورية كبيرة بعدما ضمت إليها الأراضي البرتغالية، واستولت على جل مستعمراتها. واتخذ التاريخ الأوروبي بعد ذلك مجرى آخر. ويوجد تيار في التاريخ يعتمد «لو» أي النتائج المترتبة عن حدث لو كان قد وقع. وعمليا، لو لم تنهزم البرتغال في حرب وادي المخازن، لكان الصراع منحصرا في الغرب طيلة قرون بين إسبانيا والبرتغال بدل الصراع اللاحق بين فرنسا وبريطانيا.
ساهم المغرب لاحقا في أحداث تاريخية كبرى، ولكن كان تأثيرها عميقا على إسبانيا من دون امتدادات كونية، ونعني هنا انهزام إسبانيا في حروب الريف، وعلى رأسها معركة أنوال خلال يوليو/تموز 1921، حيث كانت تأثيراتها من الأسباب الرئيسية في الانقلاب العسكري سنة 1923 في إسبانيا، ثم التسبب في الحرب الأهلية في الثلاثينيات التي قادت إلى ديكتاتورية الجنرال فرانكو. في المقابل، لم تساهم إسبانيا إيجابا في تغيير جيوسياسي عميق في المغرب، ولم تكن وراء حدث تاريخي كبير، بل كانت على العكس، فقد لعبت دور الجدار المانع لامتداد التأثير الحضاري للنهضة الأوروبية نحو المغرب، وإن كان الفكر الديني المتزمت قد ساعد بدوره في المغرب في الانغلاق على الذات. ولو كانت إسبانيا قد تحولت إلى بوابة للنهضة الأوروبية نحو المغرب، أي تلعب الدور الذي قامت به مدرسة طليطلة منذ القرن الثاني عشر، في نقل العلوم نحو أوروبا، وهذه المرة نحو الجنوب، لكان شكل المغرب قد تغير، وكان التأثير سيمتد إلى فضاءات أخرى في افريقيا، خاصة شمال وغرب القارة، ولم تساهم إسبانيا بشكل وازن في دينامية بناء أطر مغربية في القرن التاسع عشر، وإبان الاستعمار ولاحقا بعد الاستقلال وحتى الوقت الراهن في مختلف القطاعات. ورغم ظهور فكر ينادي بضرورة المساهمة في تحديث المغرب مثل مقولة خواكين كوستا يوم 30 مارس/آذار 1884 في مسرح قصر الحمراء في مدينة غرناطة قال، «المغاربة كانوا أساتذتنا ويجب احترامهم، وكانوا إخواننا ويجب أن نحبهم، وقد كانوا ضحايانا ويجب جبر الضرر. سياستنا تجاه المغرب يجب أن تكون سياسة إصلاحية وسياسة وجدانية وسياسة جبر الضرر». فكرة الجدار الإسباني ضد نقل النهضة الى الضفة الجنوبية التي هيمنت بعد سقوط غرناطة، تستمر الآن. لم تتخلص تيارات فكرية وسياسية نافذة في إسبانيا من هيمنة التصور الذي تعتنقه بعض القيادات السياسية والعسكرية منذ عهد الملكة إيزابيلا الكاثوليكية حتى يومنا؛ تصور وإن اختلف شكله من حقبة إلى أخرى، يبقى ثابت الجوهر ونواته راسخة وهو: السعي إلى إبقاء المغرب دون إسبانيا في مختلف القطاعات. ولعل خير معبر عن هذا التصور هو المفكر آنخيل غانبيت، عندما كتب في مؤلفه الشهير «إدياريوم إسبانيول نهاية القرن التاسع عشر: «أنه في نهاية القرن التاسع عشر يتعين علينا مساعدة المغرب على التمدن، شريطة إبقائه تحت السيطرة والمراقبة، حتى لا يفاجئ إسبانيا يوما ما». تفكير ينتعش أكثر عندما تستمر الضفة الجنوبية، المغرب، بعيدة عن الديمقراطية والبحث العلمي.
كاتب مغربي
Advertisement
Advertisement