عودة الخطاب العسكري الإسباني حول المغرب..

Advertisement

تساهم الحرب الروسية ضد أوكرانيا في عودة الفكر العسكري إلى السياسة، خاصة في الغرب الذي يحرص على الفصل بين السلطات، وهذه العودة لم تعد مقتصرة على المشاركة بدرجة أكبر في قرارات الخارجية المرتبطة بالدفاع، بل تمتد إلى قضايا اجتماعية كما يحدث في بلدان مثل فرنسا وإسبانيا.
ورغم اختلاف السياق الزمني، عادت أوروبا لتشهد أجواء شبيهة بما سبق الحرب العالمية الأولى والثانية، نظرا للحرب التي تشنها روسيا ضد أوكرانيا، وكيف وجدت أوروبا نفسها في موقف ضعف أمام الآلة العسكرية لموسكو. وبدأت المؤسسات العسكرية في مختلف الدول تستعيد دورها إبان الحرب الباردة، عندما كانت تساهم وبشكل كبير في صناعة القرار الدبلوماسي، وليس فقط الدفاعي العسكري، وإن كانت هذه المشاركة غير ملحوظة بما فيه الكفاية، لأنها لا تمر بالبرلمان. والحديث هنا عن الدول الغربية، دون الولايات المتحدة، هذه الأخيرة التي تشهد تقليد انخراط العسكريين المتقاعدين في السياسة، وتحملهم مناصب من الرئيس مثل حالة جورج بوش الأب، إلى الدفاع مثل حالة الوزير الحالي، أو الخارجية مثل حالة كولن باول.
وبدأ رؤساء أركان أو ضباط كبار يتحدثون علانية عن ضرورة الرفع من مستوى ميزانية الدفاع، وأحيانا يتجاوزون وزراء الدفاع من خلال مخاطبة الرأي العام. ومن ضمن تأثيرات الخطاب العسكري في المجتمعات الأوروبية هو تراجع الخطاب السياسي اليساري وأحزاب الخضر، الذي كان يعارض الكثير من القرارات الخاصة بالجيوش. وهكذا، تراجع الخطاب المعادي للانضمام الى الحلف الأطلسي في كل من فنلندا والسويد، وأصبح اليساريون لا يستبعدون الانضمام أمام الخطر الروسي. في الوقت ذاته، لا يعارض الخضر في ألمانيا عملية التسليح الكبيرة التي أعلنتها الحكومة الحالية. غير أن المقلق في الأمر هو خطر امتداد الخطاب العسكري إلى قضايا اجتماعية وسياسية، بعيدة نوعا ما عن القطاع العسكري، مثلما يحدث في فرنسا، ثم التدخل بشكل أكبر في قضايا السياسة الخارجية في ملفات حساسة كما يجري في حالة إسبانيا مع المغرب.

وعلاقة بفرنسا، شهد هذا البلد الأوروبي خلال السنتين الأخيرتين تحركا لضباط في الاحتياط من مختلف الرتب، من لواء إلى عقيد إلى ضباط متوسطين يطالبون في رسالة نشروها في مجلة «فالور أكتييل» المحافظة، المسؤولين السياسيين، خاصة رئاسة البلاد ضرورة التحرك لحماية فرنسا من المخاطر التي تهددها. وضمن هذه المخاطر، ركزوا على ما يجري في ضواحي المدن الكبرى مثل باريس من هيمنة للخطاب الإسلامي وتقاليد الهجرة. وتبدو الرسالة وكأنها صادرة عن مكتب زعيمة اليمين المتطرف ماري لوبين، هذه الأخيرة التي دعت الضباط المتقاعدين للانخراط في حزبها. الرسالة شكّلت قنبلة وسط الطبقة السياسة والرأي العام الذي كان يعتقد، عدم تورط المؤسسة العسكرية في القضايا السياسية. وعندما يتحدث ضباط كبار في الاحتياط، فهم بطريقة مباشرة يعكسون ما يحدث وسط المؤسسة العسكرية الملتزمة بميثاق الصمت. ويتكرر السيناريو نفسه في إسبانيا مع بعض الاختلافات، وقع عسكريون في الاحتياط رسائل، لكن الأدهى هو بدء انخراط ضباط كبار متقاعدين في العمل السياسي المباشر، بالانضمام إلى أحزاب سياسية محافظة مثل الحزب الشعبي، وأساسا حزب فوكس القومي المتطرف الذي فتح أبوابه للمتقاعدين. وبهذا أصبح في البرلمان ضباط من رتبة جنرال سابق كنائب برلماني. قد يبد الأمر عاديا، لكن الخطاب السياسي مقلق للغاية لأنه يركز على قضايا شائكة بسبب تأثير نظرة العسكري على السياسي. وهكذا، بدأ حزب فوكس يتحدث عن شباب قادم في إطار الهجرة السرية على متن قوارب الموت بحثا عن فرصة عمل بأنهم كوماندوهات يندسون في صمت وسط المجتمع الإسباني لتغيير تركيبته وأشياء أخرى. وأصبح حديث فوكس عن مخاطر المغرب العسكرية على الأمني القومي لإسبانيا مرتفعا، وهذا يتضح من أسئلة بعض نوابه من العسكريين المتقاعدين في البرلمان لحكومة مدريد حول التسلح في المغرب والمناورات والانتشار العسكري المغربي في أراضيه، لاسيما إذا اقترب من حدود سبتة ومليلية المحتلتين. وفي بعض الأحيان، يبدو البرلمان الإسباني وكأنه استعاد أجواء حرب الريف في العشرينيات من القرن الماضي عندما كان ما يعرف بتيار الافريقاني يهيمن على الحياة السياسية والعسكرية في البلاد. وتيار الافريقيين هو في العمق ذلك التيار الذي استوحى مبادئه من وصايا إيزابيلا الكاثوليكية وكان يؤمن بضرورة التدخل في المغرب. وبهذا، يعمل الخطاب العسكري وسط فوكس على تعزيز أطروحة «الخطر الجنوبي»، أي الخطر الذي يعتقد الإسبان أن المغرب يشكله على استقرارهم، وهذه الأطروحة ترقى إلى مصاف المعتقد في المخيال الشعبي والإداري الإسباني.
عودة العسكريين إلى المشاركة في القرار السياسي ظاهرة ستتعاظم بسبب الحرب الحالية وتلك التي قد تنفجر مستقبلا، لأن هذه الحرب تعطي لخطاب العسكري مصداقية لأنه دائما يردد ضرورة عدم الركون إلى الارتياح وضرورة الاستعداد دائما للأسوأ. كان العسكري يردد هذا الخطاب في وقت كان السياسي يردد بطوباوية باستحالة عودة الحرب إلى قلب أوروبا، لكن حرب روسيا ضد أوكرانيا خلقت وضعا مخالفا. غير أن تقديم تنازلات كثيرة للعسكريين في الغرب قد يقود لا محالة إلى وضع غير محمود، إذ كلما هيمنت النظرة الأمنية والعسكرية على المجتمع، تراجعت جودة الديمقراطية. لقد تراجعت جودة الديمقراطية في الغرب بعد تفجيرات 11 سبتمبر نتيجة هيمنة ما هو أمني. وتحت يافطة محاربة الإرهاب جرى الإجهاز على مكتسبات حقوقية كانت من المسلمات ولا يفرط فيها المواطن الغربي، والآن قد يتفاقم هذا الوضع أمام ارتفاع حضور الخطاب العسكري، الذي قد يصبح مهيمنا وسيتم التنازل عن مكتسبات أخرى.
*كاتب مغربي من أسرة «القدس العربي»

Advertisement
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.