في الأدب المغاربي قديما

Advertisement

في منتصف التسعينات من القرن الماضي، حظيت بالمشاركة في مؤتمر علمي عن الأدب المغاربي في مدينة طنجة ؛ نظمته مؤسسة «بروتا» بإدارة سلمى الخضراء الجيوسي. وقد تركزت مقاربتي في غياب «السلطة الشعرية» في نظامنا الثقافي الرمزي المغاربي الذي كان يضم الأندلس أيضا. فقد عرفت هذه البلاد منظرين كبارا في شتى مجالات الفقه والفلسفة والتاريخ والنقد الأدبي (سحنون، ابن خلدون، ابن رشد، ابن رشيق، حازم القرطاجني…) أكثر مما عرفت مبدعين كبارا. وكان للاشتغال في النظريات موقع الصدارة في الثقافة «المغاربية» وفي مختلف أنظمتها الرمزية. أما الإبداع الشعري وهو مجلى أسرار اللغة و«مخيالها» وبنيتها الأنطولوجية، فلم تكن للمغاربيين عامة، سوى تجارب قليلة تتجلى في الندرة والفرط من القصائد مثل «أضحى التنائي…» لابن زيدون الأندلسي، و«يا ليل الصب…» للحصري القيروان، وحديثا «إرادة الحياة» و«النبي المجهول» و«صلوات في هيكل الحب» للشابي… وبعض الموشحات الأندلسية التي سارت على الألسنة. وهذه الشوارد هي أظهر ما بقي في الذاكرة من ديوان الشعر المغاربي. أما النصوص الأخرى، وهي كثيرة، فتظل جزءا من تاريخ الأدب، بل لعلها تعزز من وجاهة هذا الطرح، وتؤكد غياب «السلطة الشعرية» وارتباط اللغة العربية في بلاد المغرب بالمؤسسة الدينية الفقهية؛ الأمر الذي جعلها لا تسخو بموفور قوتها في الشعر المغاربي حتى في الموشحات، وهي فن أندلسي (مغاربي) خالص، فقد استثمره شعراء «التروبادور» في ما يسمى «البالاد» و«الأغاني الوجدانية» وفتحوا من خلاله مجالا للشعر الأوروبي لم يكن قد ارتاده من قبْلُ.

على حين لم يقيض له في الأندلس أو في بلاد المغرب، شعراء كبار يستثمرون نظامه الإيقاعي المتحرر من القيود التقليدية، أو يجلون بواسطته شعرية «القصيدة المغاربية» على أتم وجوهها إلا في فلتات نادرة. وفي ما عداها فإن الموشحات، إلا أقلها، حشد من المحسنات البديعية والمعاني المطروقة في القصيدة العربية الكلاسيكية، حتى إن استخدم بعض شعرائها الخرجة الإسبانية أو لاتينية العصور الوسطى. كان هذا تقريبا محور المقاربة التي قدمتها، وقد أثارت سجالا، بل اعتراضا من أصدقاء مرموقين، من أبرزهم الشاعر محمد بنيس. غير أني عدت منذ سنوات إلى قراءة أدبنا المغاربي، ووجدتني أعدل بعض ما سقته من «مصادرات» أو»مسلمات» استئناسا بهؤلاء الشعراء والأدباء من أمثال عبد الجبار بن حمديس 1055 ــ 1132 الذي ولد في سرقوسة، في صقلية، ونشأ في أسرة محافظة؛ وكان مع ذلك يرتاد الحانات والأديرة (الديارات باصطلاح أبي الفرج الاصفهاني) حيث تقدم الخمر، وهي غير محرمة في المسيحية، في الأعراس والأعياد، ثم هاجر إلى الأندلس بعد سقوط «بلارم» حيث أقام في اشبيلية، ومدح المعتمد بن عباد؛ ثم إلى افريقيا متنقلا بين أغمات وسلا والمهدية وبونة وقابس وصفاقس وميورقة وسبتة، وبجاية حيث توفي.

أما ديوانه فقد صححه وقدم له إحسان عباس 1960، مستأنسا أساسا بنسخة الفاتيكان، وما اطلع عليه من نسخة المتحف الآسيوي في بطرسبرغ (لينينغراد). وقد أضاف إليه القصائد المفقودة التي أوردها ابن بسام في «الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة». وهو تحقيق يطمئن إليه الباحث، إذ الثابت أن ابن حمديس جمع ديوانه بنفسه، ورتبه على الحروف، وأثبت فيه مناسبات القصائد. وهو يضم قصائده الصقليات، وما كان يلم به من الذكريات والحنين إلى الوطن بعد سقوط صقلية؛ ومراثيه في والده وابنته وجاريته جوهرة، التي غرقت عند عبوره من الأندلس إلى المغرب، ومدائحه وغزلياته وخمرياته، ومقطعاته في الوصف والحكمة والزهد. ونقف فيها على أثر البيئتين الصقلية والأندلسية، وهو الشاعر الذي استغرقته الحياة، خاصة في صقلية في فترة الشباب، ثم في الأندلس حيث متنزهات إشبيلية ومجالس الشراب، والرقص التمثيلي التعبيري. فلا غرابة إن كان ديوانه ثمرة الشاعرية المغاربية ذات البعد الأمازيغي العربي المتوسطي (بلاد المغرب الكبير وصقلية والأندلس) مثل وصف الطبيعة والأنهار والبساتين والأشجار والأزهار، والحيوانات، ومجالس الشراب والموسيقى، والأدوات الحضارية كالقلم والشمعة والثريا. والوصف عنده ضرب من الرسم، وليس بالمستغرب أن نلحق الرسم بالشعر، والعين بالصوت أو الكلمة؛ وهما اللذان يتحدران من أرومة واحدة هي الكتابة والخط. على أن الديوان يخلو خلو تاما من الهجاء والموشحات، دون أن نعرف لذلك سببا وجيها. ولعل ما صرفه عن الهجاء، رفعة أخلاقه التي تأبى ما يقوم عليه هذا الفن من المضحك والغريب والمبتذل والسوقي، وأما الموشح وهو الفن الذي استنبطه أهل الأندلس وأكثره في الغزل والنسيب؛ فقد يكون مما زهده فيه، وهو الذي عاش في بيئة تخالطها عناصر وأمشاج، من مكونات عربية وغير عربية؛ إنه باستثناء الموشح الشعري، أقرب إلى الأغنية منه إلى القصيدة، إذ لا ينتظمه أي وزن من أوزان الشعر وأعاريضه المعروفة، وحتى المهملة. وعروض الموشح ـ على قلق هذا المصطلح ـ ألحان موسيقية مصطفاة صاغتها ثقافات البحر الأبيض المتوسط، وتحديدا ثقافة الأندلس التي كانت مثاقفة تشكلت في سياق تاريخي مخصوص. قال في النيلوفر، وهو مغترب:

هو ابنُ بلادِي كاغتِرابِي اغْترابُهُ // كِلانَا عنِ الأوطانِ أزعجهُ الدهرُ

ومن هؤلاء المشاهير علي الحصري القيرواني الضرير 1029 ــ 1095. ولد في القيروان عام 420هـ/1029م، ولقب بالحصْري (بتسكين الصاد) نسبة إلى قرية «حصْر» قرب القيروان، حيث قضى شبابه حتى الثلاثين، حتى إذا كانت الزحفة الهلالية، هاجر إلى سبتة؛ ثم إلى الأندلس، حيث مدح المعتمد بن عباد صاحب إشبيلية، وبعض ملوك الطوائف؛ ثم إلى طنجة حيث توفي488هـ/ 1095م. وهو صاحب القصيدة «يا ليل الصب» التي اشتُهِرت أكثر منه؛ وهي في مدح صاحب مرسية في الأندلس، الأمير أبي عبد الرحمن محمد بن طاهر. وتشتمل على 99 بيتا، منها 23 في النسيب. وقد عارضها شعراء العربية شرقا وغربا، وأشهرهم: أحمد شوقي وأبو القاسم الشابي ومصطفى خريف.

يقول في عماه:

وقالوا: قدْ عَمِيتَ، فقلتُ: كلا

فإني اليومَ أبصرُ مِن بصيرِ

سوادُ العينْ زَارَ سوادَ قلبِي

لِيجْتَمِعا على فهْمِ الأمُورِ

أما ديوانه «اقتراح القريح واجتراح الجريح» فقد حققه التونسيان محمد المرزوقي والجيلاني بن الحاج يحيى (1963) معتمدين مخطوطة الديوان الوحيدة الموجودة في دار الكتب المصرية؛ وهي مرتبة حسب الطريقة المغربية في ترتيب الحروف. وهذه الطريقة تتفق مع قرينتها الشرقية حتى حرف الزاي، ثم تختلف عنها بعده. وقد احتفظ المحققان بها، وبذلا جهدا محمودا في نسخ المخطوطة، وإصلاح ما شابها من محو ونقص. ويضم الديوان في طبعته الجديدة الصادرة عن المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون «بيت الحكمة» 2009، وقد قدم لها محمد اليعلاوي، ثلاثة أقسام: أولها ثلاث مقدمات نثرية مسجوعة، مدارها على الوعظ والإرشاد والتزهيد في الدنيا، والتذكير بالآخرة. وثانيها هو الديوان الأصلي، وفيه يجري الشاعر على قاعدة التزمها في كل القصائد؛ وهي بدء القصيدة بحرف من حروف الهجاء، ثم يشفعها بمقطوعات قصيرة تتراوح بين بيتين اثنين، وأربعة أبيات.

وثالثها ذيل الديوان، وهو يضم 29 قصيدة موزعة على حروف المعجم. ومدار الديوان كله على غرض الرثاء، وقاعدة هذا الغرض تأكيد الغيبة، وسياقه الزمني الماضي الذي يحمل قيمة في ذاته؛ ويفيد في الآن نفسه الدوام والاستمرار أي الذكر الباقي. والمرثي هو ابن الشاعر عبد الغني الذي توفي وهو دون العاشرة من عمره. ولئن أقام الحصْري رثاءه شأنه شأن شعراء المراثي، على قاعدتي الندبة أي بكاء الميت، والتأبين أي الثناء على الميت؛ فإنه تفرد وهو الأعمى، بوصف مرض ابنه وأعراضه من رعاف ونزيف، وصفا دقيقا. وأبرز حيرة الأطباء في علاجه، وما كان يعانيه هو من لذع الحزن والوله والحرقة، بل برع في وصف احتضار الطفل وموته، بل انزوى في التفاصيل، فأرجع المرض إلى ثلاثة أسباب هي: لطمة أخ له يسميه «ابن الجارية» وفراق أمه، والحصْري يعرض بها وبخيانتها؛ وعين الحاسد إذ كان الطفل على صغر سنه، مبرزا في ترتيل القرآن وتجويده، وفي التمييز بين مختلف قراءاته، على نحو ما جاء في بعض المراثي.

ليلةَ الموتِ دعاني فدَعــــالي وقدْ قبلَ رأسِي واعتنقْ

وهْوَ ينْدَى عرَقًا من شمه

قالَ هذا ماءُ ورْدٍ لا عَرَقْ

وهذا وغيره من خصائص الشعرية القديمة، لا مسوغ له سوى ما يقوله ابن رشيق القيرواني في عمدته من أن «الشعر إلا أقله، راجع إلى باب الوصف، ولا سبيل إلى حصره واستقصائه؛ وهو مناسب للتشبيه مشتمل عليه؛ لأنه كثيرا ما يأتي في أضعافه، والفرق بين الوصف والتشبيه أن هذا إخبار عن حقيقة الشيء، وأن ذاك مجاز وتمثيل. وأحسن الوصف ما نعت به الشيء؛ حتى كاد يمثله عيانا للسامع… وقال بعض المتأخرين: أبلغ الوصف ما قلب السمع بصرا».

كاتب وشاعر تونسي

Advertisement
  1. free fifa points fifa 23 يقول

    FREE COINS IN FIFA 23

  2. hellbest hheyran يقول

    الامانة العامة لمجلس الوزراء تعطيل الدوام الرسمي غداً في العراق شكرًا لك..

  3. leylee kamela يقول

    استمارة التقديم على وزارة العمل والشؤون الاجتماعية شكرًا لك..

  4. Kylee Newman يقول

    I appreciate you sharing this blog post. Thanks Again. Cool.

  5. Noelle Joseph يقول

    El contenido que ofrecen es informativo y relevante, brindándome un valor inmenso cada vez que visito su página. El conocimiento y la perspectiva que proporcionan es un recurso valioso que no dejo de apreciar.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.