محمد دخاي :
مطار مراكش المنارة ، ذلك الصباح من شهر دجنبر بدا خاويا على عروشه إلا من أصحاب سيارات للأجرة ، يتفحصون المسافرين ..نملأ أوراق الشرطة ، أصحاب النظافة بالمطار كانوا يقفون قرب المغادرين وهم يلوحون في مشهد مقزز ببيع أقلام الحبر الجاف ، قال مرافقي أنها علامة على أنهم يعيشون تحت الصفر وأن المشهد يسيء إلى البلاد أكثر ، تذكرت نفس المشهد بمطار مدينة تورينو عند العودة لكن بصورة أخرى لنساء شقروات في قمة أناقتهن يجمعن القمامة غير آبهات بالمسافرين ……
أغادر مراكش وكأنني أغادر سجنا كبيرا ، كانت الطائرة في الأعالي كنسر جانح يبحث عن طريدة ، إلا من مضيفات للطيران ّ، سمرتهن واضحة زداتها العشوائية التي كن يضعن بها الكحل واحمر الشفاه وضوحا أكبر ، ففي الوقت الذي كنت فيه منغمسا في التفكير في تفاصيل الندوة الدولية التي نشارك فيها ،غط مرافقي في النوم إلا من شاب ايطالي كان بجانبنا إنغمس حد الثمالة في رواية لامبرتو ايكو ( اسم الوردة ) ، تذكرت أنها نفس الرواية التي كتب عنها مؤلفها كتابا متميزا كنت قد قمت منذ مدة بإعادة قراءة نقدية له وبالعربية في أحد الملاحق الثقافية …..
نصل تورينو أو مهد إيطاليا كما يسمونها ذلك الصباح ، جو بارد زادته جاذبية جبال الألب المجاورة سحرا خاصا ، أضع يدي على أذني وأهبط أرض المطار ، تلسعني نسمات برد تورينو وإبتسامات فتاتين جميليتن كانتا تقفان ببوابة المطار تستقبلان العابرين بكل أريحية ، تذكرت نظرات بعض الجيران وأناس مدينتي البحرية الصغيرة الذين يكرهون كل شيء حتى أنفسهم ….
حب الأمكنة حب أعمى ، وكلمات تاهت بنا السبل غيرنا الأماكن التي تغنى بها (محمد عبدو ) في أغنية رائدة ، هي الأماكن التي لا يستشعرها إلا من يعشق الكتابة والفن والثقافة وكل أشياء التواصل الجميلة بإعتبارها ولادة جديدة في بلاد الرومان بحضارتها العتيقة الضاربة في التاريخ و مسقط رأس معظم السياسيين البارزين الذين ساهموا في توحيد إيطاليا..
الليل في تورينو يغتسل بنظرات نجومه وبرده القارس وكأنه يغتسل من بركة من النبيذ المعتق المترامي الأطراف بين الحانات والمقاهي والمحلات التجارية وسط أنوار أشجار الميلاد المتلألئة ، أتأمل المنظر المهيب ، أنخرط في الأزقة المتفرعة ، أتأمل الوجوه الشقراء التي كانت تمر غير آبهة بالآخرين ، في خواء غريب زادته السكينة التي يلتحف بها المكان إلا من موسيقى رومانسية تنبعث منة هنا وهناك…تورينو تذكرني بأزقة مدينتي الصغيرة هناك قرب البحر على الأطلسي ، تذكرت المساجد والميعرة والكنيسة التي كنا نسمع دقات جرسها كل أحد ، تذكرت مسعودة تلك المرأة اليهودية التي كانت توزع السخينة على جيرانها بحي السقالة بوابتنا على أمواج الأطلسي وبحرها الهادر الذي سيظل شامخا بكوابيسها وهو يظلل أحزان سكان موكادور …
ما بين ساحة ( بورطا نوفا ) وساحة (بورطا بلاص ) تمتد الحكاية في مدينة صنفتها اليونسكو تراثا عالميا في سنة 2014، كل يوم نعبر الفضاء عبر التراموي ، بألوانه الزرقاء والصفراء ، نحشر أنفسنا وسط أجساد رشيقة جميلة بأعين بلون البحر ، إلا من سحنات بعض المغاربة والألبان التي كانت واضحة للعيان وكأنهم خارجون من حكاية علي بابا والأربعين حرامي ، نصل الساحة التي تضم كل أطياف المهاجرين وخصوصا من مدن المغرب العميق ، كل الجنسيات هنا مصريون وتونسيون وأسيويون يمتهنون البيع على الأرصفة ، ماركات من الألبسة الجيدة والعطور والشوكلاطة بأثمنة مختلفة …
نتيه وسط الجموع بساحة (بورطا بلاص ) ، كنموذج مصغر لحوار الحضارات ، تذكرت النظرات الحزينة لمرتادي المقاهى ببلادي التي تظل مفتوحة كل النهار ، نمشي كل الساعات لا نحس بالعياء نرتاد مقهى لشرب الإكسبريسو وهو كناية عن مزيج من زبدة الحليب بالسكّر المقطّر والبن المطحون والشوكولاتة ، ثلاثة طاولات فقط بالمقهى ، تشرب قهوتك بسرعة وأنت تتصفح الجريدة الأولى بإيطاليا *la stampa* ، تذكرت جرائدنا الملطخة بالدم والجرائم والإغتصابات وزنا المحارم ، في بلاد يسمي فيها البعض نفسه بالمسلم وأنه من خير أمة أخرجت للناس تلك التي تأمربالمعروف وتكره كل المناكر والظلم والحكرة والقتل وسفك الدماء للأسف …
خمسة أيام كنت كمن يلقي بفراغ الأشياء في جمجمتي ، أراقب الطائرة وهي تعبر أشلاء الغيم ، الليل في إتساقه يرمق عودتي ينسف أحلامي المؤجلة التي بنيتها بين أناس يرحبون يبتسمون يجسدون الحضارة في أبهى حللها ، يمشون فوق الرصيف يحترمون شارات الضوء الأحمر ، يضحكون يسمعون الموسيقى ، لا أعطاب لهم مع أجسادهم أو مع عقولهم ، حتى ضابطة الشرطة في المطار تنخرط معك في إبتسامة مجلجلة بالصدق وهي تمدك بدواء عبارة عن سائل لا يسمح بحمله ضمن الحقيبة اليدوية وهي تعرف أن ما قامت به يزكي صفوة الإنسان ومكانته في كل الأزمنة والأمكنة رغم ديانته أو عرقه أو لونه …
ذكريات طورينو لن أوزعها إلا رمادا حارقا على أرصفة العبور ففيها فقد (نيتشه ) عقله ومر منها وبافيزي وبيكاسو وماتيس وهمنغواي زاروا من خلالها مقهى *Al Bicerin* الأسطوري الذي يقع في ساحة كونسولاتا وسط المدينة ، تهاجمني صورتي في المرآة فأمنح ضلوعي لكل الهواء الهارب من جديد بمطار المنارة لأعود من جديد لإنسيابي اليومي وإلى عوالمي التي ليست إلا سياجا واسعا مغلقا ، لأن كل شيء خارج الزمن شديد السكون يتنفس إرهاق وتعبا وكان العالم ينسحب ببطء من دواخلنا …