فؤاد الفاتحي ….
كل ما ذكرناه في المقالة السابقة كان يتعلق بالغربة الاجتماعية التي تعيشها فئات عريضة من المغاربة، بسبب تراجع الدولة عن ضمان الحقوق الأساسية للمواطن من شغل وتعليم وتطبيب وسكن وعدالة… كل ذلك، ما هو إلا نتيجة حتمية لسياسات غير شعبية اتبعت على مدى سنوات، كان هاجسها الوحيد الحفاظ على التوازنات الماكرواقتصادية، على حساب التوازنات الاجتماعية، الأمر الذي أدى إلى ما نراه من تزايد معدلات الفقر والهشاشة، واتساع الهوة بين الطبقات الفقيرة (لم تعد لدينا طبقة فقيرة واحدة)، التي لا تستطيع توفير احتياجاتها الضرورية بسبب محدودية الدخل وارتفاع مستوى المعيشة، والطبقة الغنية الغارقة في حياة البذخ.
إن ما يزيد من تعميق هذه الأزمة الاجتماعية والاقتصادية، هو الجمود السياسي الذي تشهده البلاد، بسبب عدم وجود إرادة سياسية لإصلاح الأوضاع، مع العلم أن جميع المغاربة كانوا يعتقدون بعد التعاطي الإيجابي الذي أبداه النظام مع تداعيات الربيع العربي، أن الوضع السياسي سيعرف انفراجا وتقدما على مستوى الممارسة السياسية، فإذا به يعود إلى التأزم والانقسام بين الأحزاب، حيث تفجر الصراع بين أكبر حزبين سياسيين في الائتلاف الحكومي، هما حزبي العدالة والتنمية والاستقلال، وتعطلت كثير من المشاريع والبرامج الاجتماعية والاقتصادية بسبب ذلك، وظل المواطن ينتظر حلا الأزمة السياسية، التي تسبب فيها حزب الاستقلال بعد انسحابه غير المبرر من الحكومة.
تعددت القراءات حول الأسباب الكامنة وراء هذه الأزمة السياسية التي فجرها حزب الاستقلال بقيادة حميد شباط، الرجل الذي دخل إلى قلب المشهد السياسي بقدرة قادر، وقد شكل وصوله لمنصب الأمين العام مفاجأة لكثير من المراقبين، خاصة وأن الرجل لا يمتلك مواصفات السياسي المتّزن الذي يستطيع قيادة حزب كبير، لكن من الواضح أن الذين دفعوا به للخروج من جُبّة النقابي، والتحوّل إلى كائن سياسي، كانوا يراهنون على “شعبويته” السوقية، التي نزلت بالممارسة السياسية إلى الحضيض، حيث لم يتورع في استخدام قاموس غير أخلاقي في مواجهة خصومه، وكان آخر ما تفتقت عنه عبقريته، هي الخروج في مسيرة ضد الحكومة، مستعينا بالحمير.
قد تكون من بين الأسباب غير المعلنة للأزمة، أن أطراف في السلطة لم تعد تنظر بعين الرضى لبقاء حزب المصباح متصدرا للمشهد السياسي، خاصة مع تراجع شعبية حزب الميزان، مع العلم أنه كان دائما مشاركا أو قائدا لمعظم الحكومات السابقة، هذا الوضع السياسي الجديد قد يكون خلق لدى السلطة ما يمكن تسميته بـ”الغربة التدبيرية”، فهي ألفت أن يكون تدبير الشأن العام من نصيب أحزاب بعينها، فإذا بالحزب الذي كانت تتوجس منه، بحيث لم تكن تسمح له بالترشح في جميع الدوائر الانتخابية، يفاجئها بتصدر النتائج وقيادة الحكومة.
هناك نوع آخر من الغربة، وهي الغربة السياسية، وهي تتعلق أساسا بالمشهد الحزبي، حيث نجد أحزابا مغربية تعيش في غربة سياسية، نتيجة تراجع شعبيتها وتفكك إطارها التنظيمي، بعدما راكمت طوال مسيرتها عدة أخطاء، فلم تعد تستطيع استقطاب الجماهير لإطارها ولا إقناع الناس ببرامجها، واتضح زيف الشعارات التي كانت ترفعها، وأنها لا تمتلك لا مبادئ ولا برامج سياسية، ومن أجل تجاوز حالة الاغتراب السياسي، تحولت إلى كائنات سياسية خادمة للسلطة ومنفذة لبرامجها.
وفي تقديري فإن أشد أنواع الغربة، هي الغربة الفكرية أو العقائدية، فعندما يجد المرء نفسه يعتقد شيئا لا يتقاسمه معه السواد الأعظم من المجتمع، فإنه قد يصاب بالشعور بالإحباط والعزلة، وهذا حال بعض التيارات الفكرية والإيديولوجية بالمغرب، حيث إن هناك تيارا فكريا منذ عقود وهو يعاني من حالة من الاغتراب الفكري، لأنه لم يستطيع أن يوصل قناعاتها إلى عامة الناس وظل خطابه هامشيا ومنعزلا عن المجتمع، وهذا حال التيار العلماني، الذي رغم طول السنوات التي قضاها في العمل المتواصل من أجل علمنة المجتمع، وعلى جميع الجبهات المدرسية والطلابية والجمعوية والثقافية والنقابية والسياسية والإعلامية.. إلا أنه وجد مقاومة شديدة من المجتمع المحافظ على قيمه الحضارية، وهو ما أصاب بعضهم بحالة من الإحباط عبّر عنها أحدهم في مقالة تحت عنوان: “زلزال ثقافي” بيومية الأحداث المغربية جاء فيها: “إنها مؤشرات صادمة (يقصد نتائج استطلاع لصحيفة “أكتوال”) ومزلزلة للحداثيين (العلمانيين) حين يُعبّر 68% من المغاربة عن اعتقادهم أنه يتعين نهج سياسة ثقافية جديدة مطابقة للتعاليم الإسلامية… من دون شك وبكثير من القلق تحتل المحافظة اليوم مركز المجتمع..”. وفي ندوة ثقافية صرح أحد رموز العلمانية بقوله: “التقدميين (العلمانيين) مدعوون اليوم لخوض معارك ضارية وسط المجتمع لدفع المغاربة إلى الاقتناع بجدوى العلمانية”.
وكان بعضهم أكثر جرأة في التعبير عن إرادته للخروج من هذه الغربة الفكرية المرتبطة باستبعاد الدين، واعترف بخطئه التاريخي في تهميش الدين في الخطاب الثقافي والسياسي لليسار، وأعلن في بيان له عن مراجعات فكرية مهمة جاء فيه: << الدين والمسألة الدينية لم تحتلا في برنامجه (اليسار) السياسي وعمله المكانَةَ التي كان يُفْتَرَض أن تحتلانها فيه، تَنَاسُبًا مع مكانتها في المجتمع ومؤسساته وعلاقاته، وفي ثقافة الشعب الجمعية.. >>(مقتطف من بيان “من أجل وحدة اليسار”).