عوامل جيوسياسية واقتصادية ضاغطة، تجعل بلدان الاتحاد الأوروبي تعيش أزمة حادة اقتصاديا وسياسيا وأمنيا، جراء الحرب الأوكرانية. وقيام الاحتجاجات وتقلب مزاج الرأي العام حيال مواقف الحكومات الأوروبية، هو إشارة على ارتفاع كلفة الوقوف بجانب كييف.
في الأثناء، تداعيات الحرب وصلت لحد التسبب بسقوط رؤساء حكومات في دول أوروبية كبيرة على وقع الأزمات الناتجة عنها، كرئيس الوزراء الإيطالي السابق ماريو دراغي، ورئيسة الحكومة البريطانية المستقيلة ليز تراس التي لم تتجاوز فترة حكمها أسابيع معدودة. أججت أزمة الطاقة التي دفعت بها الحرب الأوكرانية، حالة عدم الاستقرار الاقتصادي في أوروبا، حيث أدى ارتفاع الأسعار لازدياد التضخم، بشكل وصل بالفعل إلى مستويات قياسية في منطقة اليورو، ما زاد من سخط فئات كثيرة، تنتقد حكوماتها التي تهتمّ بالحرب أكثر من معالجة الارتفاع الكبير في أسعار الغاز والكهرباء.
وحرب الطاقة التي تمارسها روسيا ضد الدول الأوروبية نجحت في مفاقمة وضع الأزمة على نحو غير مسبوق، ما دفع بالحكومات الأوروبية إلى الهرولة بحثا عن بدائل لواردات الطاقة الروسية. في وقت يهدد فيه التراجع الاقتصادي الناتج عن أزمة الطاقة وإغلاق العديد من المنشآت الصناعية، بحالة عارمة من الكساد في العديد من دول الاتحاد، ويبدو أنّ مظاهر الاحتجاج على فشل هذه الأنظمة في حل أزمة الطاقة التي تنعكس سلبا على الشعوب، تشير إلى نجاح استراتيجية الكرملين في ممارسة ضغوط على تلك الحكومات من خلال حرب الطاقة، وبشكل لم يعد خفيا، تدفع موسكو نحو تفكيك التضامن بين دول الاتحاد الأوروبي الداعم لأوكرانيا، وتقسيمها بين مؤيد ورافض، لإسقاط العقوبات الأوروبية ضدها. ومن مصلحتها، أن يؤدي الوضع غير المحتمل الذي تعيشه الشعوب الأوروبية بشأن ارتفاع تكلفة المعيشة، وتضخيم فواتير الكهرباء وغاز التدفئة، إلى قيام احتجاجات ضخمة ومتواصلة، من شأنها الإطاحة بالقيادات المناوئة للكرملين، وصعود حكومات بديلة أقل عدائية لموسكو، وإن يكن من اليمين المتطرف، أو من أقصى اليسار. ويُرجّح أن تمارس موسكو المزيد من الضغوط في ضوء مطالبة أوكرانيا الدول الأوروبية، بتوفير أقصى ما يمكن من الدعم العسكري لتعزيز قدرات القوات الأوكرانية في مواجهة القوات الروسية. على نحو يجعل أزمة الطاقة، لاسيما في دول شرق ووسط أوروبا تهدد بخطر متزايد من الفوضى السياسية، خاصة مع قدوم فصل الشتاء، ما ينذر بخفوت التأييد الأوروبي لأوكرانيا تحت وطأة مشاكل الطاقة التي تجتاح جميع دول القارة العجوز. أما واشنطن التي تريد أن تمنع موسكو من إمكانية تسوية الأزمة الأوكرانية بطريقة دبلوماسية، وتصر على حرب استنزاف، فهي في النهاية، ترتبط بعلاقات محدودة مع كل من أوكرانيا وروسيا، ما يخفف الآثار المباشرة عليها، في حين تمثل الطاقة القناة الرئيسية لانتقال التداعيات إلى أوروبا، حيث تشكل روسيا مصدرا أساسيا لوارداتها من الغاز الطبيعي. من يتولى المبادرة في الاتحاد الأوروبي؟ ماكرون مثلا، يبدو أنه لن ينجح في دعم استقلالية الاتحاد الأوروبي، في مجالات التقنيات الحديثة، والدفاع، والطاقة، وإنتاجية الغذاء، وتجاوز أزمة سلاسل التوريد العالمية، التي بدأت بعد وباء فيروس كورونا، وتستمر في سياق الحرب الروسية الأوكرانية، رغم أنّ الرئيس الفرنسي كان صريحا مع مواطنيه، عندما دعاهم لتوديع حالة الرفاهية، وإعلانه انتهاء زمن الوفرة، لكن هذا لن يكون كافيا لإقناع أصحاب السترات الصفراء، بعدم العودة إلى الشارع مجددا للاحتجاج على التراجع الحاد للقدرة الشرائية. في المقابل، ما تراه موسكو من عداء عبّر عنه القادة الأوروبيون بفرضهم العقوبات عليها بتأثير أمريكي، يدفعها إلى مزيد الضغط على دول الاتحاد لخلق انقسام وتشتت في القرار بينهم، هذا ما حدث مع المجر مثلا فرئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، المعروف بعلاقاته الجيدة بالكرملين، يعرقل جهود الاتحاد الأوروبي، بخصوص فرض حظر على النفط الروسي، ويرفض التوقيع على إجراءات أخرى ضد موسكو، أملا في أن تحصل بلاده على مصادر الطاقة الروسية التي تعتمد عليها بشكل كامل. أوربان، أقرّ صراحة بأنّ، العقوبات المفروضة ضد روسيا، قد تجبر أوروبا على الركوع على ركبتيها. ولن تستطيع لا برلين، ولا باريس إقناعه بتغيير موقفه. وبالتالي فكرة تشكيل جبهة غربية موحدة وقوية، لمواجهة بوتين دون هوادة، باءت بالفشل. والصورة الأوضح، هي لتكتل مكون من27 دولة، مقسم، مرتبك في إصدار القرارات المتعلقة بالسياسات الخارجية، ومنها العقوبات. وتتفاوت تأثيرات الأزمة بين دوله، ولا يجتمع على شيء، وتلك نقطة ضعف يستفيد منها بوتين إلى أقصى حد.
هناك ضغوط شعبية كبيرة تتعرض لها الحكومات الأوروبية بسبب موقفها من الحرب في أوكرانيا، وهذه الدول تواجه مخاطر غير مسبوقة. وأمام أزمة الطاقة والتضخم وارتفاع الأسعار من جهة، ومطالبة الجماهير بسياسة اجتماعية عادلة، وسياسة بيئية حقيقية من جهة ثانية، لن تخرج أوروبا من هذه الأزمة إلّا وهي معرّضة لخسائر فادحة، وإن بنسب متفاوتة بين دولها، وهو سياق تأتي فيه إشارة بعض وسائط الإعلام الأمريكية، لما تخشاه الولايات المتحدة من أن تغيّر أوروبا موقفها تجاه روسيا وأوكرانيا تحت تأثير أزمة الطاقة مع حلول فصل الشتاء. والانقسام المرجح أن يتفاقم بين دول الاتحاد، يثير مخاوف المسؤولين الأمريكيين. والخطر الحقيقي لديهم، أن يثور المواطنون في أوروبا على الاستراتيجية الغربية لعزل روسيا اقتصاديا، فهذه الاحتجاجات ليست لحظية كما يبدو، بل هي موجة غضب مستمرة، واتهام المتظاهرين بالموالاة لموسكو كوسيلة دفاع سياسي ضد الموجة الاحتجاجية، على غرار ما نطق به رئيس وزراء التشيك بيتر فيالا، هو غباء سياسي بكل المقاييس، بديله أن تجد الحكومات حلولاً ناجعة لتخفيف تبعات الأزمة، على نحو إجراءات تخفيف اقتصادية، ومساعدة المتضررين من وطأة التضخم، وبمعنى أشمل أن تأخذ الحكومات الأوروبية بعين الاعتبار الوضع الداخلي للبلدان، من دون أن ينحصر اهتمامها فقط في الرهانات الاستراتيجية الخارجية، ومسايرة رغبات الولايات المتحدة الأمريكية. وفي النهاية، ستؤدي تداعيات الحرب في أوكرانيا إلى إعادة نظر جادة في أوروبا حول فوائد دعم محاولة واشنطن اليائسة للحفاظ على هيمنتها العالمية أمام الصين وروسيا.