تلك هي دروس التاريخ التي لطالما حاول الأميركيون تكذيبها، فلكل دولة، مهما عظمت، لا بدّ من نهاية وأفول.
أبدع الروس في استثمار “قانون الفرصة” عبر اختيارهم التوقيت الملائم للحركة والفعل والتقدم.
تساؤلات كثيرة تطرحها مجريات الحرب الأوكرانية بشأن مدى قدرة الرئيس بوتين على إيجاد حل سريع ونهاية مُرضية لهذه الحرب، بعد أن نجح في امتلاك زمام المبادرة والفعل، وتحديد لحظة بدء حرب كان يرى أن لا مناص من خوضها. فالتردد والتباطؤ سينقلانها إلى الداخل الروسي ربما، وسيجعلان تكلفتها على موسكو مرتفعة بصورة مؤكَّدة.
وجد الغرب نفسه عاجزاً عن التصدي للقوة الروسية، فلجأ إلى المنطق التدويري في التفكير وتزوير الحقائق، عبر المبالغة في إظهار تداعيات الحرب على المدنيين، متناسياً الجرائم التي ارتكبها بحق البشر والشجر والحجر في العراق وليبيا وسوريا.. فحروبه “نظيفة”، أمّا معارك الآخرين، دفاعاً عن وجودهم وكيانهم، فقذرة وتهدد الإنسانية ويجب أن تتوقف.
الحقيقة المؤلمة، التي تسعى الولايات المتحدة الأميركية للهروب منها، هي أن العالم اليوم يمر في دورة حضارية مؤلمة، والخسائر فيها كبيرة. تلك هي دروس التاريخ، التي لطالما حاول الأميركيون تكذيبها. فلكل دولة، مهما عظمت، لا بد من نهاية وأفول، لكن جبروتهم أوهمهم
بأن لهم القدرة على تحدي سنن الكون، فأعلنوا أن التاريخ انتهى وتوقف بتربعهم على عرش العالم. ولأنهم يكرهون التاريخ، بسبب افتقارهم إليه، تركَّزت فلسفتهم السياسية على فكرة نبذ التاريخ باعتباره عبئاً على الشعوب والدول، فتوهَّموا أن “أسعد الشعوب هي الشعوب التي بلا تاريخ”.
وما زاد في كراهيتهم للتاريخ، قيام الرئيس بوتين باستحضار التاريخ، محفزاً ودليلاً على استعادة الدور والمكانة في المسرح الدولي، فتعرّض لحملة هوجاء لأنهم قرأوا ما قاله قراءة سطحية من دون فهم وتعمق فيما يعنيه. فالتاريخ لديهم أحداث حدثت في الماضي وانتهت. أمّا التاريخ، الذي تحدّث الرئيس بوتين عنه، فهو ما حدث في الماضي بالنسبة إلى روسيا، والذي كان سبباً في رسم واقعها اليوم، والذي يؤسس مستقبلها عبر رؤية استراتيجية بعيدة المدى. فمن يقرأ التاريخ بسطحية وعدم فهم، فلن يدرك دلالات ما عناه بوتين. أمّا المتبصّر في دروس التاريخ وعِبَره والمدرك لها، فلم يكن لديه شك في أن روسيا اليوم تعيد تصحيح التاريخ.
مع الإشارة إلى أن المجتمعات المادية، والتي لا قيمة فيها لإنسانية الإنسان، يصعب عليها فهم حقيقة مفادها أن الإنسان ما هو إلاّ كائن تاريخي في النهاية، وأن العالم، بالنسبة إليه، ليس سوى مجموعة من الأفكار والعلاقات، وربما المشاريع.
متى تُهزم الأمم؟
استطاعت موسكو أن تثبت للعالم أن الأمم لا يمكن أن تُهزم إلاّ إذا فقدت ثقتها بقدرتها على الفعل، واستكانت ورسخ في ذهنها استحالة تغيير الواقع بسبب قسوة ظروفه وتعقيداته. عندها
فقط، تكون الخسارة كبيرة جداً ومحقَّقة. من هنا، كان الرئيس بوتين هو “الشخص الذي هز القارب”، بعد دراسة وتخطيط ورويّة وإدراك لتبعات ما سيقوم به، والنتائج التي ستنتج منه، فتمّ اتهامه بالمغامرة على الرغم من أن المغامرة هي شيء مدروس ومحسوب بعناية، لكن احتمالات بروز تغيرات مفاجئة قد تكون واردة فيها، والقائد هو من يتحمل تلك المسؤولية ويكون على قدر التحدي.
لقد أبدع الروس في استثمار “قانون الفرصة”، عبر معرفتهم التوقيت الملائم للحركة والفعل والتقدم. فبايدن، المهزوم في أفغانستان، لا يحتمل خسارة أخرى، وهو على أبواب انتخابات نصفية للكونغرس في مجلسيه، قد تكون نتائجها في غير مصلحته بعد فشله في إدارة الملف الأوكراني الذي شكل هزيمة أخرى تُحسَب عليه. أمّا أوروبا فهي في “حالة تثاؤب”، بل ربما بدأت تغط في سبات سيطول. فالدولتان الأوربيتان الأهم (فرنسا وألمانيا)، مشغولتان بإعادة ترتيب أوراقهما، والمستشار الألماني يفتقد الخبرة والدراية، ولم يمضِ على استلامه منصبه سوى أشهر قليلة، وبلاده ستكون المتضررة الأكبر من تداعيات تلك الحرب على أسعار الطاقة. أمّا ماكرون فهو مشغول بحملته الانتخابية بعد نحو شهر، ومن المحتمل أن يكون للحرب الأوكرانية تأثير في مستقبله السياسي. أمّا سائر الدول الأوروبية فلا داعي للخوض في تفاصيلها، فهي في المجمل فاقدة للقدرة على الفعل والتأثير
وجدت موسكو نفسها مضطرة إلى المواجهة مع المعسكر الغربي. وفي المواجهة عادة ما يقوم الطرف الضعيف بخطوات يعتقد أنها ضرورية لحفظ ماء وجهه، أو للقول إنه لا يزال فاعلاً سياسياً في المسرح الدولي. أمّا الطرف القوي فيُقْدِم على خطوات تؤدي الى التهديد بإزالة الطرف الآخر من الوجود، لو اضطره الأمر إلى فعل ذلك، وهو ما جعل موسكو تنهج نهج
القوي، الذي لن يتراجع على الرغم من كل الاعتبارات والمعطيات.
لقد وقع بايدن في فخ إغراءات الكمّ والكيف، فغرّه عدد الدول التي من الممكن أن تكون إلى جانبه في حربه على موسكو، متناسياً دور الكيف وأهميته في حسم المعركة. فالروس، عندما يقاتلون من أجل قضية تستهدف وجودهم وكيانهم وأمنهم القومي، سيكون الكيف لديهم أقوى كثيراً من الكمّ. فأوكرانيا، بالنسبة إلى الروس، قضية وجود، بينما هي ليست سوى ورقة بالنسبة إلى الغرب يستخدمونها للضغط على موسكو واستنزافها في حرب اقتصادية يراد لها أن تكون طويلة من أجل تكرار ما حدث للاتحاد السوفياتي في أفغانستان. والحكمة التاريخية تقول إن الكم عادة ما يغري صاحبه فيتكبد خسائر كبيرة، فهل ستشذ الحرب الأوكرانية عن تلك القاعدة؟
في الحديث عن شرعية الحرب على أوكرانيا
يتناول باحثون متعددون الحرب الأوكرانية، من وجهة نظر القانون الدولي، متناسين أن طبيعة الصراع ليست قانونية، فالصراعات القانونية لها أدواتها ووسائلها. أمّا الصراعات فوق القانونية، والتي تستهدف وجود الدولة وأمنها القومي، فالحل الأمثل لها يكون في امتلاك القوة والقدرة على استخدامها عند الضرورة. والقوة هنا قد تكون قوة صلبة فقط، وفي بعض الأحيان تكون قوة ناعمة. أمّا الروس، في الحرب الأوكرانية، فأحسنوا استخدام القوة الذكية بعناية فائقة، إذ استطاعوا التمييز بين المكاسب الصلبة والمكاسب الهشة، فحققوا المكاسب الصلبة ذات الطابع الاستراتيجي، والتي تؤثّر في مجريات الحرب وتطوراتها، وتركوا لخصمهم بعض
المكاسب الهشة وذات التأثير الإعلامي فقط، والتي لن تساهم في تغيير جوهر الصراع وطبيعته. وحققوا، على المستوى الاستراتيجي، مكاسب كبيرة أبعدت التهديد عن أمنهم القومي، وهو ما يجعل كل الخسائر صغيرة إن قورنت بما تم تحقيقه.
ومن يتحدث عن شرعية الحرب ومشروعيتها، فاتَه الحديث عن شرعية العقوبات الاقتصادية والتعامل اللاإنساني مع المواطنين الروس وممتلكاتهم في الخارج، والإساءة إلى الطلبة الروس في الخارج، وسوى ذلك من الأفعال التي لا تمتّ إلى الإنسانية بصلة.
وفي الإشارة الى العقوبات الاقتصادية الغربية على موسكو ومدى فعاليتها، لا بدّ من الإشارة الى أن الاقتصاد العالمي اليوم أشبه بالأواني المستطرَقة، فكل تأثير في اقتصاد دولة، سلباً كان أو إيجاباً، ستنتقل مفاعيله إلى اقتصادات الدول الأخرى، لا محالة، ولو كان ذلك بنسب متفاوتة، وهو ما أدركته موسكو ووضعته في حساباتها منذ البداية.
ثم، ماذا لو لجأت موسكو إلى الأسلوب نفسه، وقامت بإجراءات انتقامية، لن يكون قطع شبكة الإنترنت عن العالم أقساها ربما؟
بين الطموح والإمكانات
في الصراعات الدولية وفي حسابات الربح والخسارة، كل لاعب دولي يكون له وزن معين، وهذا الوزن يرتبط بقوته وقدرته على استخدام تلك القوة، وبتحالفاته ونجاحها. واللاعب الجيد هو الذي يعرف نقاط قوته ونقاط الضعف لديه من دون أن يخضع لتضليل الذات وتضخم “الأنا” لديه. والحكمة تقتضي أن يتلاءم حجم الطموح مع الإمكانات والقدرات المتاحة للدولة. فإذا كان حجم الطموح أكبر من القدرة على تحقيقه، فسيكون ذلك
بمثابة فشل استراتيجي. فالأيام المقبلة سوف تكون حاسمة في إظهار مدى قدرة الروس على الموازنة بين قدراتهم وإمكاناتهم وبين الطموح والهدف اللذين يسعيان لتحقيقهما. فاللاعب السياسي يجب أن يميز بين القضايا ذات الطابع الاستراتيجي والقضايا ذات الطابع الإعلامي، والتي يكون الهدف منها عادة هو التسويق السياسي.
لقد استطاع الرئيس بوتين توجيه تطمينات إلى الشعب والجيش الأوكرانيَّين، انطلاقاً من مبدأ إقامة علاقات مع الآخر من دون إغفال الأخطاء التي يقوم بها، والسعي لتجاوز تلك الأخطاء والعمل على تصحيحها، والبحث عن النقاط المشتركة والتي يمكن البناء عليها بين الطرفين. فالحكمة تقتضي العمل على خلق ثغرة لدى الطرف الآخر من أجل الوصول إلى التيارات الأوكرانية المناهضة للغرب، ودعمها.
من الواضح أن تحقيق هدف إطالة أمد الحرب في أوكرانيا، والذي تسعى الولايات المتحدة لتحقيقه من أجل استنزاف القوة الاقتصادية لموسكو، لن يتحقّق إلاّ عبر الاعتماد على حركات “الإسلام السياسي”، وهو ما بدأ فعلاً عبر نقل هؤلاء المرتزقة من ليبيا وسوريا إلى أوكرانيا. فالمشغّل واحد، والمموّل سيكون هو ذاته الذي موّلهم في الحروب السابقة، وأوكرانيا ستكون سوقاً جديدة لتجارة السلاح وتهريبه. وبالتالي، سينتقل الإرهاب الى حدود الدول الأوروبية، وسيكون هناك استنزاف اقتصادي كبير لتلك الدول في سعيها للمحافظة على أمنها الداخلي. وربما ستجد نفسها مضطرة إلى عقد صفقات شراء السلاح من السيد الأميركي. كما أن دخول المقاتلين الأجانب لأوكرانيا ربما سيسمح بدخول “قوات أطلسية متأسلمة
تاريخياً، كانت العلاقة بين الولايات المتحدة وحركات “الإسلام السياسي” علاقة دعم وتبنٍّ، تراوحت بين السرية أحياناً، والعلنية في أحيان كثيرة. وربما كانت أقصى درجات الدعم حين دعمتهم في حرب أفغانستان ضد السوفيات. وكان “الإسلام السياسي”، على الدوام، أكثر قرباً وانسجاماً مع السياسة الأميركية، التي يُعتقد أنها تشاركه في العداء للشيوعية “الملحدة”.
وفي الحديث عن ارتدادات تلك الحرب على المنطقة العربية، يبدو أنه لن يكون نصيب الدول العربية منها سوى السلبيات، وهذا يشمل حتى الدول المصدّرة للنفط والغاز، والتي يُفترض أن تكون أكثر الرابحين من الارتفاع الكبير في الأسعار، لكنها، على ما يبدو، مقتنعة بأن رفع سعر النفط إلى أرقام خيالية لن يجعل الغرب يدفع إليها هذا الثمن المرتفع، بل ربما سيفكر في الاستيلاء عليه بالقوة، لا بالدولار، كما أنه لا يمكن لمن لا يملك القمح أن يفرح بارتفاع أسعار النفط والغاز.
وتبقى الصين بيضة القبان، وحيث تميل سترجح الكفة، وهو ما سيشكل منعطفاً جديداً في العلاقات الدولية. لكن فلسفة القوة لدى الصين ما زالت ثابتة، ولم تتغير، وتتلخّص في أن قوة الصين هي لمنع الآخرين، وليس لإجبارهم على فعل ما يريدون. كما أن دول العالم تعي تماماً أن من يعيش في جوار فيل، عليه الابتعاد عن استفزازه.
وفي الخلاصة، فإن لا سبيل إلى حل مشاكل العالم مجتمعة إلا عبر تشكيل نظام أمن جماعي حقيقي، يكون إصلاح الأمم المتحدة أُولى الخطوات في تحقيقه، وهو حلم لا يزال بعيد المنال حتى اليوم.