من مخلفات جائحة كوفيد 19 تحسُّنُ أداء بعض القطاعات في البورصة وتراجُعُ أخرى. لم يكن ذلك نتيجةَ الصدفة أو المباغتة، بل هو راجع إلى طبيعة النظام الرأسمالي في جذوره وصيرورته المبنية على التناقضات؛ تناقض أساسي بين الرأسمال وقوة العمل، وتناقض ثانوي دَاخل الرأسمال نفسه. وفي ظل تراجع حدة الصراع الطبقي، بين الرأسمال وقوة العمل، عمدت الرأسمالية (انطلاقا من وصفات توفيقية) إلى محاولة إخفاء الصراع، رغم وعيها باستحالة تغيير طبيعته. بذلك تحقق للرأسمالية الانتشاءُ بنصرها، وسيطرتها على النظام العالمي. ولعل هذا ما تجسده مقولة فوكوياما: «لا يوجد تناقض أساسي واحد، لا يمكن حله في إطار الليبرالية الحديثة»، مبشراً في ذلك بخطاب النهايات.
لقد تزايدت حدة المنافسة/الصراع بين أقطاب الرأسمال (الرأسمال المالي ورأسمالية الدولة)، وهو ما أفضى إلى بروز حروب اقتصادية معلنة، تارةً للسيطرة على الأسواق والموارد الطبيعية، واليد العاملة المتاحة وفق شروطها، وتارة أخرى لاشتعال الحروب العسكرية تصفية لحساباتها. إن الأزمات التي شهدها النظام الرأسمالي (1929، 1974، 2008) شكلت مراحل للصراع الذي يعتمل داخل هذا النظام نفسِه، بين رأسمالية الدولة والرأسمال المالي. ويبدو أن جائحة كوفيد 19 تؤذن بالتأسيس لمرحلة جديدة يجتهد فيه الرأسمال المالي من أجل السيطرة على النظام العالمي. هذا ما تبرزه مؤشرات من قبيل: ـ ارتفاع نسبة التضخم الدولي، فحسب تقارير صندوق النقد الدولي بلغت هذه النسبة 8.8% سنة 2022، ومن المتوقع انخفاضها إلى 6.5%، حسب المصدر نفسه. ارتفاع أسعار المواد الأولية في السوق العالمي، ما يهدد بأزمات غذائية. استمرار تَراجُع نسبة النمو الدولي لينخفض إلى 2.7% مقارنة بسنة 2022 التي بلغ فيها نسبة 3.2% . ارتفاع المديونية العمومية والإصرارُ على سياسة التقشف، حيث إن نسبة المديونية على الناتج الداخلي الخام تضاعفت، في بعض دول منطقة الأورو، ثلاث مرات. في حين أن «معاهدة ماستريخت» نَصَّتْ على عدم تجاوز المديونية لنسبة 60% من الناتج الداخلي الخام. – ارتفاع المديونية في دول الجنوب منذ 2010، لتعمل الجائحة بعد ذلك على جعل هذه المديونية أثقل. إن كانت هذه المؤشرات تفصح عن صراع داخل الرأسمال نفسه، فإن الصراع سيكون محتدما أكثرَ بين الرأسمال والطبقات الشعبية. وهو ما سيسعى الرأسمال إلى إخفائه باستراتيجياته المعتادة.
ولئن كان انطلاق الرأسمالية قد انبنى على حرية المبادرة والمنافسة، فإن مراحلها تكشف عن توجه نحو الاحتكار والتركيز؛ ذلك أن قوة الاحتكارات ضاعفت من أرباحها تحت مبرر «الأزمات»؛ ففي قطاع الزراعة الغذائية، ووفق منظمة الفاو، ارتفعت أسعار المواد الأساسية بنسبة 33.6% وذلك قبل الحرب في أوكرانيا. وقد اتُّخِذت هذه الحرب مبرراً لهذا الارتفاع. وفي القطاع الطاقي، حققت الشركات العاملة في القطاع (شيل، توتال إنيرجي، إكسون..) أرباحاً قياسية بلغت 82 مليار دولار. أما في قطاع صناعة الأدوية، فإن شَرِكتيْ «فايزر» و»موديرنا» حققتا أرباحاً خيالية بلغت ما يفوق 93.5 مليون دولار في اليوم سنة 2021. ولا شك في أن الوضع في المغرب ليس استثناءً داخل هذا الوضع العالمي، وما ذلك إلا نتيجة التبعية والخضوع. إن المؤشرات المشار إليها أعلاه ليست أقل استفحالا في المغرب؛ من تضخم وارتفاعٍ لأسعار المواد الأولية وارتفاعٍ لحجم المديونية وانخفاض لنسبة النمو.. وهي مؤشرات تثبت سيطرة الرأسمال المالي، الذي وجد تعبيره السياسي في الانتخابات المنصرمة. لقد شهدت سنة 2022 انخفاض النمو الاقتصادي، حيث سُجلت نسبة 2% خلال الفصل الثاني من هذه السنة مقارنةً مع السنة الماضية، التي سُجلت فيها نسبة 14.2%. إلا أن أقوى الانخفاضات هي تلك التي سُجلت في القطاع الفلاحي بنسبة 15.5%، مع انخفاضٍ لمعدل القيمة المضافة بنسبة 1.6% حسب تقارير المندوبية السامية للتخطيط، وارتفاع الدين الخارجي بنسبة 10% حسب تقرير المركز التجاري للأبحاث، وارتفاع مؤشر الأسعار عند الاستهلاك بنسبة 1.7% بخصوص المواد الغذائية ونسبة 0.6% بخصوص المواد غير الغذائية، وهذا المؤشر الأخير سيؤدي إلى ارتفاع شهري بنسبة تضخم تصل إلى 0.8%، ليصل إلى 7% كمعدل سنوي حسب آخر تحيين لتقارير المندوبية السامية للتخطيط. وسواء تعلق الأمر بالتضخم الداخلي أو التضخم المستورد، فقد اتُّخِذا مبررا لزيادات في الأسعار غير مبررة، ولعل ذلك راجع إلى طبيعة التشكيلة الاقتصادية والاجتماعية للنظام، الذي يهيمن عليه نظام الريع. هيمنة تتحقق بآليات الاحتكار والاستغلال، كما يبدو أن نظام الريع ليس إلا نسخة مشوهة عن الرأسمال المالي الذي يحتضنه ويملي عليه وصفاته، مقابل إغراق النظام في مزيد من المديونية. في هذا السياق، يأتي مشروع قانون المالية 2023 ليجسد استمرارا لما سبق من المخططات الاقتصادية للدولة. لا جديد يمكن تسجيله، اللهم إلا الهجوم على الفئات الوسطى (المهنيين، المقاولات الصغرى والمتوسطة). يتجلى هذا الهجوم في فرض ضرائب جديدة (الاقتطاع من المنبع بالنسبة للمهنيين الأحرار) ورفع نسبة التضريب بخصوص المقاولات الصغرى والمتوسطة. وفي مقابل هذا الهجوم، لم تتغير نسبة التضريب الخاصة بالشركات، التي تحقق أرباحا مرتفعة. ويتضح أن مخرجات المناظرة الوطنية للجبايات، على علاتها، لم تؤخذ بعين الاعتبار في إعداد مشروع قانون المالية الحالي والذي سبقه. لقد ارتفع العجز التجاري بنسبة 53.5% جراءَ ارتفاع الفاتورة الطاقية وأسعار المواد الغذائية، على أن مساهمة المبادلات الخارجية للسلع والخدمات في النمو قد تراجعت بـ 0.2 نقطة، مقابل مساهمة إيجابية بلغت 2.9 نقطة، وذلك خلال الفصل الثاني من سنة 2021، ينضاف إلى ذلك ارتفاع الحاجة لتمويل الاقتصاد الداخلي، ما يكشف عن عدم قدرة الاقتصاد المغربي على فك الارتباط وبناء اقتصاد وطني. لنا أن نتساءل: ما المرتكزات التي انبنى عليها مشروع قانون المالية 2023؟ وهل بإمكان هذه المرتكزات أن تقدم إجابة عن الوضع الراهن للاقتصاد الداخلي؟ هي مرتكزات أربعة: 1ـ تعزيز أسس الدولة الاجتماعية. 2 ـ إنعاش الاقتصاد الوطني، عبر دعم الاستثمار. 3 ـ العدالة المجالية/ تدبير الموارد المائية. 4 ـ استعادة الهوامش المالية، لضمان استدامة الإصلاحات. تعزيزُ أسس الدولة الاجتماعية يأتي من جهة الوعي باحتدام الصراع، فالغاية من هذا المرتكزِ التخفيفُ من حدة هذا الصراع. ولعل الالتفات إلى الأسس التي وضعها المنظرون لمفهوم الدولة الاجتماعية، يُظهر ارتباطه بمجالات الصحة والتعليم والثقافة والسكن.. في حين أن أجرأة هذا «المشروع» في وثيقة مشروع قانون المالية ينحصر في قطاعين: الصحة (تعميم التغطية الصحية) والسكن (دعم السكن الاقتصادي).
غير أن غياب البنية التحتية للقطاع الصحي العمومي تكشف عن اتجاه الدولة نحو تقديم هدية للرأسمال، هدية تمنحه فرصا أخرى كي يتقوى أكثر على حساب الطبقات الشعبية. كما أن قطاع السكن يهَب للوبيات العقار فرص الاغتناء، عبر الدعم والامتيازات الجبائية. ومن الواضح أن نسبة النمو التي يراهن عليها مشروع قانون المالية، التي يتوقع أن تصل إلى 4%، لا تنبني على معطيات واقعية (أسعار الفوسفات في السوق الدولية، موسم فلاحي جيد نسبيا). لقد أثبتت تجارب عديدة بخصوص دعم الاستثمار فشلها، وبدل التفكير في أسباب هذا الفشل؛ فإنها تتكرر بشكل كاريكاتيري. إن دعم الاستثمار يندرج ضمن المبادرة الحرة وحرية المنافسة، مما يمنح لهذا المرتكز هويته الليبرالية. فداخل نظام يسوده الريع والاحتكار تصير المبادرة الحرة وحرية المنافسة أوهاماً. من بين تجليات فشل سياسات الدولة إفلاسُ «مخطط المغرب الأخضر» واستنزاف الموارد المائية، ينضاف إلى ذلك ما يقوي التبعية لرأسمال المركز من استيرادٍ لوسائل الإنتاج، بدءاً من البذور ووصولا إلى المكننة. يغدو المغرب في هذا السياق بستاناً للسوق الرأسمالية، فليس له من ذلك إلا معطيات الأرض والموارد المائية واليد العاملة الرخيصة غير المؤهلة. إن هذه السياسات والمخططات لم تكن موجهة صوب توفير الأمن الغذائي، ولم تكن إلا توسيعا للفوارق المجالية؛ ومن ثمة فإن مشروع قانون المالية تُعْوِزُه الرؤية والفعالية لتقليص هذه الفوارق. ينطوي «الإصلاح» على اعتراف ضمني بوجود العطب، كما أنه لا يمس العطب جوهريا، بل يكتفي بالتوجه نحو تمظهرات هذا العطب. وبطرحه لمرتكز استعادة الهوامش المالية من أجل استدامة الإصلاحات، يقر مشروع قانون المالية بثقل المديونية الداخلية (620 مليار درهم، بارتفاع معدله 2.5% مقارنة مع السنة الفارطة) وانعدام رؤية استراتيجية في تدبير المالية العامة. وعلى الرغم من كل محاولات إضفاء صبغة إصلاحِ وتحديث الإدارة، فإن سيادةَ البيروقراطية وتسلطَ الإدارة يُظهران هشاشة هذا المرتكز. وبعد، فلئن كانت الأسطورة تتحدث عن «باندورا» التي دفعها الفضول إلى فتح صندوقها الشهير الذي انبثقت منه كل شرور العالم، فإن تصفحَ قانون مشروع المالية ينبئ بانطوائه على شرورٍ تلغي كل إمكانية لمواجهة تحديات الوضع العالمي. وإن كانت بعض صيغ أسطورة «باندورا» تتحدث عن ضوء خافت انبثق لحظة فتح الصندوق، قيل إنه الأمل؛ فإن ما يَعِدُ به مشروع قانون المالية لا يعدو كونه الأمل الزائف الذي يؤجل تطلعات الطبقات الشعبية، بل يجعل هذه التطلعات رهن الرأسمال الذي تعود على صناعة «صناديقَ» لا تنفتح إلا على ما يُرعِب.
كاتب مغربي