بعد تلويحه بإمكانية حل المجلس الأعلى للقضاء في تونس، أصدر رئيس البلاد قيس سعيد مرسوما بـ”وضع حد للمنح والامتيازات” المخولة لأعضائه (45)، وشدد على ضرورة “تطهير” القضاء
ووفق أستاذ في القانون الدستوري، فإن هذا المرسوم “قانوني”، ويُحسب لسعيد فتح “ملف فساد صعب”، واعتبر أن مجلس القضاء تحول إلى “نقابة مصلحية”، مرجحا أن الرئيس سيعيد هيكلة مجلس القضاء ولن يحله.
بينما شددت قاضية في محكمة النقض على تمسك القضاة باستقلاليتهم ورغبتهم في الإصلاح لكن مع تحديد مفهومه أولا، ورأت أن مجلس القضاء “لم يساير السلطة السياسية في ضربها لخصومها السياسيين”، واتهمت سعيد بالرغبة في “تركيع” القضاة وحل مجلس القضاء، محذرا من تصعيد القضاة.
ويسود جدل في الأوساط السياسية والحقوقية والقضائية في تونس بشأن استقلالية القضاء، لا سيما على ضوء تصريح لسعيد اعتبر فيه القضاء “وظيفة من وظائف الدولة”، وتلميحه إلى حل المجلس الأعلى للقضاء، وهو هيئة دستورية معنية بمراقبة حُسن سير القضاء واستقلال السلطة القضائية.
واشتعل النقاش حول استقلالية القضاء منذ أن أعلنت وزيرة العدل، ليلى جفال، في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، إعداد مشروع قانون يتعلق بالمجلس الأعلى للقضاء، مما أثار حفيظة العديد من القضاة.
تصريح الوزيرة رأى فيه هؤلاء القضاة تدخلا في الشأن القضائي، فيما قال سعيد إن إعداد هذا المشروع سيتم بإشراك القضاة أنفسهم، لكنه شدد في أكثر من مناسبة على أنه لا يمكن أن يحل القضاة محل المشرعين.
وتطرق سعيد، في مناسبات عديدة، إلى القضاء، مشددا على أنه “قضاء الدولة” و”مستقل لا سلطان عليه غير القانون”، و”لا طريق إلى تطهير البلاد إلا بقضاء عادل وفوق كل الشبهات”.
والإثنين، انتقد سعيد ما قال إنه “طول فترة التقاضي” في بعض الملفات، مشددا على ضرورة “تطهير القضاء”.
وقالت جمعية القضاة الشبان (غير حكومية)، عبر بيان في اليوم التالي، إن “إلغاء الفصول القانونية للمجلس الأعلى للقضاء وتعويضها بمرسوم رئاسي، يعد تمهيدا للقضاء الوظيفة الذي يتبع سلطة رئيس الجمهورية”.
وشددت على أن “كافة الهيئات الدستورية وأعضاء الحكومة ورئاسة الجمهورية تسند لموظفيها منحا هامة”، معتبرةً أن “سحب هذه المنح أو حل المجلس الأعلى للقضاء لا علاقة له بإصلاح القضاء”.
هذا الجدل حول القضاء يأتي في ظل أزمة سياسية حادة تعاني منها تونس، منذ 25 يوليو/ تموز الماضي، حين بدأ سعيد فرض إجراءات “استثنائية” منها: تجميد اختصاصات البرلمان، وإصدار تشريعات بمراسيم رئاسية، وإقالة رئيس الحكومة وتعيين أخرى جديدة.
وترفض غالبية القوى السياسية والشعبية في تونس هذه الإجراءات، وتعتبرها “انقلابا على الدستور”، فيما تؤيدها قوى أخرى، وترى فيها “تصحيحا لمسار ثورة 2011″، التي أطاحت بالرئيس آنذاك، زين العابدين بن علي.
لا مساس بالقضاء
واعتبر أستاذ القانون الدستوري والمحامي رابح الخرايفي، أن “مرسوم سحب الامتيازات من أعضاء المجلس الأعلى للقضاء قانوني واستند إلى الأمر 117 المستمد من الدستور”.
وفي 22 سبتمبر/ أيلول الماضي، أصدر سعيد المرسوم الرئاسي رقم 117، وينص على إلغاء هيئة مراقبة دستورية القوانين، وإصدار تشريعات بمراسيم رئاسية، مما أثار اتهامات له بالسيطرة على السلطة التشريعية.
ومستنكرا، تساءل الخرايفي: “هل من مهام مجلس القضاء أن يضع منحا ورواتب وامتيازات لأعضائه؟!”
وتابع: “لا أعتقد أن سعيد يريد عبر ذلك وضع يديه على القضاء، وهو في تقديري لا يستطيع فعل ذلك”.
ورأى أن “قرار المجلس منح امتيازات لأعضائه الحاليين فيه جانب أخلاقي غير مقبول، وهو قرار سياسي، فلا يمكن لأي هيئة أن تنتفع من قرارات (بخصوص الامتيازات) أصدرتها بنفسها”.
واستطرد: “قياسا على المجالس النيابة، فإنه حين يتم وضع المنح فإنه لا ينتفع بها النواب المباشرون في هذه الفترة، وإنما المنح تهم المجالس القادمة”.
واعتبر الخرايفي أن “مرسوم سعيد لا يمس استقلال القضاء، وهناك تمترس من قبل عدد من القضاة وراء شعار ومبدأ استقلال القضاء الغرض منه ليس إصلاح القضاء، وإنما بقاء الوضع على ما هو عليه”.
وزاد بأن “هناك مسائل كان يُفترض على المجلس مراجعتها منذ تأسيسه في 2016، وأهمها القانون الأساسي للقضاء (لسنة 1967).. ست سنوات لم يتّم خلالها تقديم مقترح لإصلاح القضاء، بل تم الاكتفاء بإصدار البيانات”.
ورأى أن “تركيبة المجلس حزبية ونقابيّة جعلته يتحول من مؤسسة دستورية إلى نقابة مصلحية تدافع على مصالح القضاة، وبالتالي هناك حياد عن المهام. والمرسوم مس مسائل هامشية لا علاقة لها باستقلال القضاء”.
إعادة هيكلة المجلس
ووفق الخرايفي، فإن “ما يقوم به سعيد من فتح ملف فساد صعب يُحسب له وهو من الشجاعة، لأنه كلما حاول أحد الاقتراب من هذا الملف اتُهم بضرب استقلالية القضاء”.
وتابع: “القضاة في عزلة وهم من تسببوا فيها، والقيمة الاعتبارية للقاضي تراجعت لدى الناس”.
وأعرب عن اعتقاده بأن “مجلس القضاء لن يُحل، وما سيقوم به رئيس الجمهورية هو تعديل للقانون أو إعادة هيكلة له أو تقليص عدد أعضاء المجلس”.
تمسك باستقلال القضاء
أما القاضية والمستشارة لدى محكمة التّعقيب (النقض)، رجاء البجاوي، فقالت إن “القضاة متمسكون باستقلاليتهم وبالنأي عن كل التجاذبات السياسية”.
وأضافت أن “المجلس هيئة عمومية دستورية من هيئات الدولة وليست طرفا في النزاع السياسي”.
واعتبرت أن “قرار تعيين قاضية على رأس وزارة العدل يعيدنا لرأس التجاذبات، خاصة وأنها تتلقى التعليمات من الرئيس وفقا للفصلين 17 و18 من المرسوم الرئاسي 117، وهو ما يتنافى واستقلالية القطاع”.
والفصل 17 ينص على أن “الحكومة تسهر على تنفيذ السياسة العامّة للدولة طبق التوجيهات والاختيارات التي يضبطها رئيس الجمهورية”، فيما ينص الفصل 18 على أن “الحكومة مسؤولة عن تصرفها أمام رئيس الجمهورية”.
وبشأن أزمة المنح والامتيازات، قالت البجاوي إنها “أُسندت بناء على ميزانية مجلس القضاء وأسندت له منذ سنة 2018، إذ لم يقع إعطاؤها لأعضاء المجلس بإرادة منفردة ولا بصفة خفيّة، بل تم نشرها بالمجلة الرسمية”.
وأردفت: “لا أظن أن 500 ألف دولار سنويا (مجموع المنح) قادرة اليوم على حل أزمة تونس المالية والاقتصادية”.
واعتبرت أن “إلغاءها عقوبة مسلطة على المجلس؛ لأنه لم يساير السلطة السياسية في ضربها لخصومها السياسيين”.
ورأت أن “مرسوم إلغاء المنح مدخل لحل المجلس، ولو كانت هناك رغبة في تطبيق سياسة التقشف، فيفترض أن تطبّق على كل القطاعات دون استثناء”.
“تركيع” القضاء
البجاوي اعتبرت أن “سعيد يريد اليوم تركيع القضاء.. نحن سلطة تعمل في تناغم، وكل سلطة تراقب الأخرى”.
ودعت سعيد إلى “تشريك القضاة لصياغة الإصلاح الهيكلي لقطاع القضاء. فلا يمكن إصلاح القضاء إلا بأبناء القطاع”.
وتابعت: “اليوم لدينا رغبة فعلية في الإصلاح، ولكن الفرق بيننا وبين السلطة القائمة هو تحديد مفهوم الإصلاح”.
وحثت على ضرورة “تفادي الآثار الوخيمة التي قد تحدث، فنحن على وشك انهيار الدولة والسلطة القضائية هي آخر القلاع، ولا حديث عن استقلالية في دولة تُجمع فيها السلط بيد واحدة”.
والمعارضون يتهمون سعيد، الذي بدأ في 2019 فترة رئاسية تستمر خمس سنوات، بتعزيز سلطاته على حساب البرلمان والحكومة، فيما يقول هو إن إجراءاته الاستثنائية هي “تدابير في إطار الدستور لحماية الدولة من خطر داهم”.
وقالت البجاوي إنه “في حال استمر سعيد في سياسته تجاه المجلس، قد نسير للتصعيد، لحماية السلطة القضائية من التغول عليها، ولكن الدولة لا تتحمل اليوم هذا التصعيد”.
وحذرت من أن “هناك تشويه لسمعة القضاة وترذيلهم من قبل الرّئاسة، وهو أمر خطير يفتح الباب للتصفية الجسديّة”.
الشروق نيوز 24 / متابعة