كيف حصن المجتمع الصيني كيانه ومسؤوليه من فيروس الفساد ونزوات استغلال المنصب العمومي؟!

Advertisement

الدكتور طارق ليساوي.

أشرت في مقال ” لماذا أرى أن ألية اشتغال حكومة أخنوش تقوم على قاعدتين: “إقتصاد الهمزة ” و ” كم من حاجة قضيناها بتركها” ؟ ” إلى بعض مخاطر و مثالب زواج المال بالسلطة، و لا يعني ذلك أن رجال الأعمال و المقاولين او الأغنياء و الأثرياء محرم عليهم ولوج حقل السياسة ففي ذلك مجانبة للصواب ، فرجل الأعمال يمكن ان يدير المنصب الحكومي و يدخل للسياسة عبر صناديق الاقتراع ، و لكن ينبغي ضبط هذه الرغبة بالقوانين الصارمة التي تمنع الوقوع في المحظور و تعيق تضارب المصالح ..فأغلب الحكومات في العالم تسجل وجود رجال أعمال ، لكن من الصعب أن يتم السكوت أو التعاطف مع استغلال مناصبهم العمومية لتحقيق مكاسب شخصية ، فالقوانين بهذه البلدان صارمة ، لكن للأسف في المغرب أصبحنا أمام ظاهرة التطبيع و التعاطف و التسامح مع ناهبي المال العام ، بل لا يكاد يمر يوم دون أن نسمع فضيحة اختلاس ملايين الدراهم من المال العمومي ، و حتى إذا تمت متابعة المختلس فإن الحكم يكون مخفف جدا ..لذلك و أنا أتابع الوضع في المغرب أستحضر تجربة الصين في مكافحة الفساد ، و بصدق ما أحوجنا لتجربتها في معاقبة الفاسدين ..!!
و ما يثير اهتمامي -ليس في المغرب فحسب- بل بعموم البلدان العربية، كيف يتم التعاطف و التساهل الشعبي مع الفاسدين و ناهبي المال العام، بل هناك نوع من التأييد الضمني لهؤلاء اللصوص ، فمن المؤكد اليوم أن السيد أخنوش و أمثاله على حث من وجهة نظرهم ، لأنهم عندما يلتقون بمواطنين و المحيطين لا يخبرونهم بسخطهم و امتعاضهم و إنما ينادونهم و يصفونهم بأفضل الأوصاف ..بينما لو تعلمنا أن نصف الأمور كما هي بعيدا عن النفاق و التزييف لكان الوضع مغاير تماما ، نحن نعيش في قلب مجتمعات تعيش حالة مرضية شديدة الخطورة ، سيادة لقيم النفاق و التملق و الانحدار الأخلاقي و القيمي ، و صعود نجم الإمعات و الرويبضات و المتملقين و العبودية المختارة و الطوعية ..
فصمت غالبية الشعوب العربية على الرغم من الفساد “الطافح و الفاضح” ، يدعونا حقيقة إلى ضرورة تحليل سيكولوجية الشعوب العربية، و كيف تحكم على الأشياء و ما رؤيتها للمستقبل، و خاصة في ظل الأوضاع القائمة و التي لا تزداد إلا سوءا و انحدارا للقاع، و قد رأينا أن أغلب شعوب العالم لا تتعاطف مع الفساد و تنتفض ضده…فنهوض أي أمة لا يتحقق دون وعي بخطورة إستشراء الفساد و نهب المال العام، و ليسمح لي القارئ الكريم باستحضار تجربة الصين، فما أحوجنا لتجربتها في تحصين المجتمع من الفساد و زجر الفاسدين لأن ” الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقران” ..!!
ad
و تجربة الصين مع الفساد و المفسدين قديمة جدا و تعود إلى حقبة بناء سور الصين العظيم، و تحكي كتب التاريخ الصيني أن سور الصين العظيم الذي يمتد على الحدود الشمالية و الشمالية الغربية للصين من “تشنهوانغتاو” على خليج بحر بوهاي في الشرق إلى منطقة “غاوتي” في مقاطعة “غانسو” في الغرب و طول السور حوالي 2400 كيلومتر و يتكون من حيطان دفاعية و أبراج للمراقبة و ثكنات للجنود و غيرها من المنشات الدفاعية ، فهو مشروع دفاعي عسكري قديم، تم بناءه في عهد الممالك المتحاربة قبل أزيد من 2000عام..
و على الرغم من ضخامة السور فإنه لم ينجح في البداية في حماية الصين من غزوات البرابرة، و السبب هو أن بعض الجنود والقادة العسكريون، كانوا يفتحون أبواب السور للغزاة مقابل مبلغ من المال، لذلك فإن الفساد في الصين يعد من الجرائم التي تستحق أقصى العقوبات..فهذا العرف التاريخي ولد العديد من السلوكيات الثقافية المناهضة للفساد، ففي الصين اليوم أول مكان يزوره أي مسئول و أسرته بعد تعيينه هو السجن، حتى يأخذ درس عملي، و يحصن نفسه ضد نزوات الإثراء الغير مشروع و استغلال النفوذ لتحقيق مكاسب شخصية ، فمصير من يفعل ذلك هو السجن…
واختيار المقال لقصة السور و ربطها بالفساد هو لتعبير عن أن الفساد إذا استشرى في المجتمع، فانه يقتل كل الخلايا المنتجة، ويفقد المجتمع المناعة لمقاومة التحديات الداخلية والخارجية، وعلى خلاف المتداول لدى أغلبية القراء الصين بلد تغرق في الفساد، فإني استطيع القول جازما، أن أضعف درجات الفساد الإداري و السياسي توجد في الصين، و ما يؤكد ذلك هو مؤشرات مناخ الاستثمار، و الفعالية الاقتصادية للبيروقراطية الصينية، و سلطة إنفاذ القانون، فالحزب الشيوعي الصيني يمارس سلطة رقابة قوية على المسئولين السياسيين و الإداريين..
فالأداء الاقتصادي و الاجتماعي القوي في الصين منذ 1978 لم يكن ليتحقق لولا تقليص وثيرة الفساد ونهب المال العام، فالبلاد تسير بالأكفاء و ليس الولاء، فرئيس الصين الحالي لم يصل لرأس السلطة بانقلاب أو عبر التملق، و إنما عبر صناديق الاقتراع بداخل الحزب الشيوعي و هيئاته المختلفة ، وسجل انجازاته للقرية التي نشأ فيها و للمهام التي تقلدها فيما بعد يؤكد على أحقيته لهذا المنصب، فمن المؤكد انه سيخدم مصلحة الشعب الصيني لا مصلحته الشخصية..
لكن لنترك الصين فهؤلاء الناس دفعوا الثمن للوصول لما وصلوا إليه اليوم، فهذا الشعب دفع ضريبة الدم و قاوم الاستبداد الداخلي و الخارجي، ومن يعتقد أن هذا الشعب يعيش تحث ديكتاتورية غاشمة فهو يسوق الوهم ، فالمواطن الصيني يفتخر بحكومته لأنها أخرجت الصين من القاع إلى القمة ، وحققت انجازات تنموية و اقتصادية غيرت وجه الصين الحديث، و جعلت من الصين بالفعل “مملكة السماء” فهي تتربع على عرش القوة العالمية اليوم، و بيدها التأثير على مصائر باقي شعوب الأرض بما فيهم الشعب الأمريكي..
نتمنى لو أن حكامنا العرب لهم من الانجازات ما يشفع لهم عند شعوبهم، فالواقع أن ميزان إنجازاتهم صفري، و مساوئهم أكثر بكثير من إنجازاتهم، و مادمت اخترت في تحليلي الاستشهاد بالصين فمن الواجب أن أنبه بني جلدتي، إلى أن الصين و حكامها يتعاملون بمنطق برغماتي فالخلافات البينية لا تمنع من التعاون و التفاهم، بينما نحن العرب حروب “داهس و الغبراء” لازالت مسيطرة على عقلية حكامنا، فالعربي يوظف كل أساليب العنف و القهر المادي و المعنوي في مواجهة أخوه العربي، بينما إذا كان الخصم أجنبيا فقاموس التسامح والتعايش يصبح مفتوحا على أخره..
واقعنا العربي الأليم يدفعنا للتطلع للتجارب الدولية التي نجحت في تجاوز تخلفها وعثراتها، لسنا ممن يدمنون جلد الذات لكن من المؤكد انه ينبغي أن نتحلى بقدر من الموضوعية و مكاشفة الذات، فالفساد أصبح المؤسسة الوحيدة المنظمة و المهيكلة في مجتمعنا العربي ، الفساد هو من يرسم مستقبل أبنائنا، فساد متوحش لا يتورع في تدمير مستقبل هذه الشعوب، ولا خطوط حمر له ..فساد أس وجوده الزواج القائم بين السلطان والتجارة على المستوى المحلي من جهة ، وبين النخب و الأسر الحاكمة المهيمنة محليا و الشركات و الاحتكارات العالمية دوليا من جهة أخرى..
فالطريق إلى الغد الأفضل يمر عبر بوابة صحوة شعبية لمواجهة الفساد بكل أشكاله، و على رأس المفسدين الحكام الذين سمحوا لأنفسهم بممارسة واحتكار الأنشطة التجارية و الثروات الطبيعية الوطنية، ليكدسوا الثروات الطائلة في كل بنوك العالم، المهم أن لا تكون تحث سيطرة شعوبهم، فهم أول من لا يثق في استقرار مجتمعاتهم، التحدي هو نبذ العنف و محاولة نشر المعرفة الصحيحة ، فالمعركة معركة وعي و حكامنا العرب هم مجرد دمى لا تملك لا الكفاءة ولا الدراية لتحقيق التقدم و التطور و إخراج هذه المجتمعات من حلقة مفرغة عنوانها الدم و الحروب و الصراعات الطائفية والفقر و التطرف بكل أشكاله..
نتمنى أن نجد تجربة تنموية عربية رائدة ، فلن نتردد في دعمها و التنويه بها على غرار ما فعلنا مع الصين وكوريا الجنوبية وتركيا، فهذه البلدان نجحت في تحقيق انتقال أمن ، و ما كان لهذا الانتقال أن يتحقق لولا الاستجابة لتطلعات رجل الشارع،ف الأداء التنموي الجيد والتخطيط الجيد للمستقبل و الشفافية في صناعة و صياغة السياسات العمومية، و نظافة اليد و النزاهة في إنفاق المال العمومي كلها عناصر غائبة بوطننا العربي، لكن بلدان الانتقال الاقتصادي و الديمقراطي التزمت بها فكان ما كان من نمو اقتصادي و رقي دولي و تحسن في مؤشرات الأداء الاقتصادي و التنموي..
لا يكفي حملات لمكافحة الفساد أو ما أصبح يعرف إعلاميا بالزلزال السعودي و المغربي و غيره، فهذه زلازل “مفبركة” الهدف منها خدمة من أطلقها، فمكافحة الفساد ينبغي أن يكون نابعا من إرادة شعبية مستقلة و أن ينطلق من مبدأ لا أحد فوق سلطة الشعب و القانون، فالمسؤولية توأم المحاسبة وفق شريعة رب العالمين ووفق مبادئ الديمقراطية كما هو متعارف عليها كونيا..
و كما أشرنا أعلاه (إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن) و مما ترويه كتب التاريخ ان “صلاح الدين الأيوبي” رحمه الله، استدعى قبل معركة حطين بأيام صاحب الشرطة في دمشق ، وقال له: “يا صاحب الشرطة ، أذّن في الناس ، لا يبيتن احد وبابه مغلق عليه، ولا يغلقن تاجر باب متجره عند ذهابه لبيته!”.
استغرب صاحب الشرطة ‏الطلب، وحاول ان يحتج ، لكن صلاح الدين قال له بحزم : “نفذ ما امرتك به”.
صاح المؤذنون لتبليغ امر السلطان للناس (و كان عدد سكان دمشق حينها اكثر من 150 الف نسمة، وهو ما يعادل ملايين بمقياس هذه الأيام )وفي اليوم التالي، استدعى السلطان صاحب الشرطة وطلب منه ان يكرر ما فعله ليلة أمس ‏واستدعاه في اليوم الثالث وطلب منه تكرار نفس ما فعله في الليلتين السابقتين.. استدعاه في اليوم الرابع وسأله:
“هل تم ابلاغكم عن اي سرقة ؟؟”
أجابه : كلا يا مولاي
هنا قال صلاح الدين لقائد جيشه الذي كان في مجلسه:
‏”الآن أعلنوا النفير للمعركة، والله لو بُلِّغتْ عن سرقة واحدة لأجّلت المعركة عشر سنين”.
و ما يمكن استخلاصه من هذه القصة أن الهزائم و الانتصارات مصدرها الجبهة الداخلية، و ما مدى صلابتها و تماسكها، أو ضعفها و انحلالها.. انتصر المسلمون في “حطين” لأن الجبهة الداخلية كانت متماسكة و على صراط قويم، و ما كان ذلك ليتحقق لولا صلاح الرأس و كما يقال ” إذا صلح الراعي صلحت الرعية” و في الختام صدق الصادق الأمين عليه الصلاة و السلام عندما قال : ” كلكم رَاعٍ ، وكلكم مسؤول عن رَعِيَّتِهِ “.. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون..
إعلامي و أكاديمي متخصص في الإقتصاد الصيني و الشرق ٱسيوي. أستاذ العلوم السياسية و السياسات العامة…

Advertisement
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.