الاثنين الماضي فنّد السفير الايطالي في الرباط ما لمح اليه زميله في الجزائر حين افتتح قبلها بأيام ممثلية قنصلية في تندوف قائلا إن تلك» المبادرة الإدارية لا علاقة لها بأي شكل من الأشكال بالموقف الايطالي من قضية الصحراء». لكن ليس في ذلك الملف وحده يجيد الطليان اللعب على حبلين، فهم لا ينامون الليل من التفكير في جحافل المهاجرين التي ستغزوهم إذا ما انهار جيرانهم في الضفة المقابلة لهم دون أن يهمهم ما قد يلحق بهؤلاء إن هم بقوا بعيدين عن ايطاليا.
قبل عامين، أي عندما لم تكن بعد رئيسة للوزراء وجدت جورجيا ميلوني أن المطالبة بإجراء استفتاء لتقرير المصير في الصحراء تبدو ضرورية، وتحدثت بإعجاب شديد عن «الأيام العشرة التي لا تنسى» التي قضتها في تندوف عندما كانت عضوا في مجلس محافظة إيطالية، وعن احتساء الشاي صحبة نساء صحراويات. وها هي تعود اليوم وهي في منصبها وبعد أن أطلقت أكثر من تصريح حول ضرورة دعم تونس للقول في المؤتمر الصحافي الذي أعقب اجتماع الدول السبع: «نحن قريبون جدا من تونس. الرئيس قيس سعيد في المكالمة الهاتفية الأخيرة التي أجريناها أكد لي كيف أن القناة الوحيدة التي رآها عندما كان شابا هي قناة الراي اونو الايطالية».
وقد يقول قائل وما الرابط بين الموقفين؟ إنه الدفع ببساطة بالسوريالية الى مداها الأقصى ولو عبر دغدغة المشاعر وترويج الأوهام. وكل شيء يساعد على ذلك. فالساحة تبدو الآن مفتوحة على شتى أنواع المناورات والاختراقات. فالانقسامات والصراعات باتت على أشدها والتسابق والتلاحق بين دول المنطقة على عقد التحالفات والتحالفات المضادة يمضي بوتيرة متصاعدة. فهل يلقى باللوم بعدها على ميلوني إذن، كما قد يقول البعض، إن هي استغلت كل ذلك وفكرت في اللعب على وتر الخلافات والتناقضات الشديدة بين الأقطار المغاربية وسعت الى تحقيق أرباح ومكاسب من وراء ذلك؟ ألا يقول المثل المعروف «إن خلا لك الجو فبيضي واصفري»؟ فها هو المغرب الكبير يبدو وفي هذا الظرف بالذات لا في نظر الطليان وحدهم بل حتى في نظر غيرهم خاليا من الحد الأدنى من الانسجام فيما بين دوله. فكيف لا يندفع الطامعون بكل قواهم نحوه؟ ربما كان مفهوما أن تغريهم وتجذبهم رائحة الغاز والبترول التي تنبعث من ليبيا والجزائر فعجزوا عن مقاومتها والصمود أمامها خصوصا في هذه المرحلة الدقيقة التي تعيشها أوروبا بعد التداعيات التي خلّفتها الحرب الروسية في أوكرانيا على القارة. لكن الطريقة التي يتحركون بها في الضفة الجنوبية للمتوسط تلقي ظلالا كثيفة من الشك حول حقيقة نواياهم ومخططاتهم في النطاق الإقليمي الذي يعدونه، ومن دون شك، مجالهم الحيوي. كما أنها تعمق وبالمثل ذلك الشرخ الواسع أصلا والقائم بين الدول المغاربية بدلا من أن تعمل على الحفاظ على الحد الأدنى من التعاون والانسجام بينها وضمان الاستقرار الذي يُفترض أنه واحد من الأولويات المهمة لأمن ايطاليا نفسها.
لنتأمل جيدا ما الذي يفعلونه هناك. إنهم يوقعون عقودا وصفقات خيالية بمليارات الدولارات مع ليبيا والجزائر ويذرفون بعدها دموعا مغشوشة واصطناعية على تونس ثم لا يكتفون بذلك بل يعبرون ولو بشكل موارب أو ضمني عن رغبتهم في أن يأخذوا مسافة ما من المغرب من خلال بعض الإشارات الرمزية التي يرسلونها نحوه والتي كان آخرها قرارهم الثلاثاء قبل الماضي فتح ممثلية قنصلية لهم في بلدة تندوف الواقعة في التراب الجزائري والقريبة من الحدود مع المغرب والتي تعد المقر الفعلي لجبهة البوليزاريو. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا ما الذي تسعى حكومة رئيسة الوزراء جورجيا ميلوني الى تحقيقه في المنطقة المغاربية؟
يعتقد كثيرون أن الطليان كانوا أذكياء جدا وتصرفوا ببراغماتية شديدة حين انقضوا بسرعة على فرصة التوتر الذي حصل بين اسبانيا والجزائر ليعرضوا على الجزائريين لا القيام فقط بالدور الذي كانت تضطلع به مدريد بوصفها منصة لتصدير الغاز الجزائري الى أوروبا بل بدور أكبر يتضمن شراكة موسعة بين البلدين. لكن هل كان المحرك الوحيد لهم في ذلك هو البحث عن تأمين الموارد الطاقية لشبه الجزيرة الايطالية وللقارة العجوز أم الرغبة أيضا في إعادة التموقع من جديد داخل أوروبا وشمال افريقيا؟ سيكون من السذاجة حقا أن يتصور أحد أن كل طموحات ايطاليا تنحصر في الحصول على الغاز والبترول فقط فهي تتطلع من ورائهما ومن دون شك فضلا عن الحفاظ على مصالحها على المديين المتوسط والبعيد الى توسيع نطاق نفوذها في المنطقة.
وهنا، فإن تقاربها الأخير مع الجزائر ينبغي أن لا يُقرأ في اتجاه واحد بل في عدة اتجاهات ومن أكثر من زاوية. فهي وفي اللحظة التي مدت فيها يدها للجزائريين كانت تتطلع وبشكل قوي الى جيرانهم. وفي الواقع يخطىء من يعتقد أن روما قد تكون تخلت في وقت ما عن اعتبار ليبيا حديقتها الخلفية وذلك لعدة أسباب تاريخية وجيو سياسية بالأساس. ومن الواضح جدا أن التطورات التي حصلت في ذلك البلد خلال العقد الأخير وضعتها أمام تحديات صعبة ودقيقة للغاية لعل أبرزها هو التعامل مع قوى وأطراف إقليمية ودولية منافسة لها فرضت نفسها بعد الفراغ الذي تركه سقوط نظام العقيد القذافي وباتت جزءا ثابتا من لعبة الكبار التي لاتزال مستمرة فوق التراب الليبي.
ومن المؤكد أن تعدد وتنوع المنافسين ظل مصدر ازعاج وقلق للطليان الذين بقوا واثقين من أنه لن يكون ممكنا لكل الخطط والمحاولات الدولية لحل الأزمة الليبية أن تكلل بالنجاح مالم تمر عبر القناة الايطالية. إن تَقَبل الجزائر وتفهمها للدور الايطالي في ليبيا ثم في مناطق أخرى مثل تونس يبدو بالنسبة لهم مهما جدا وضروريا، وهم لا يخفون ذلك. ففي مذكرة نشرتها الخارجية الايطالية أواخر مارس/ آذار الماضي مثلا دعا وزير الخارجية الايطالي أنتونيو تاجاني نظيره الجزائري أحمد عطاف وخلال مكالمة هاتفية أجراها معه الى «العمل بتنسيق وثيق لدعم تونس وتسهيل المصالحة الوطنية في ليبيا ودعم استقرار منطقة الساحل». وهذا ما يؤكد «أهمية التعاون الايطالي الجزائري من أجل استقرار وأمن منطقة البحر الأبيض المتوسط والتعاون على المستويات السياسية والاقتصادية والأمنية» وفقا لما شدد عليه الوزير الايطالي مثلما جاء في نص تلك المذكرة.
لكن ما لا تقوله بالطبع لا المذكرات ولا التقارير الرسمية هو كيف يمكن أن يتحقق أي شيء من ذلك في ظل التناقضات الصارخة بين المبادئ والمصالح الايطالية في المنطقة إن استطاع الطليان أن يغمضوا أعينهم عن الديمقراطية في جوارهم، تحت ذريعة الحفاظ على مصالحهم، فهل بقيت لهم أي صدقية بعد ذلك للتلميح الى دفاعهم عن حق تقرير المصير في مكان آخر؟ ربما باتت خدع السيرك الايطالي اليوم مفضوحة ومكشوفة ومثيرة لقدر واسع من الاشمئزاز.
كاتب وصحافي من تونس