لماذا لا نستبعد ان يطلق بوتين الصاروخ النووي الأول اذا اقتربت الحرب العالمية الثالثة من الاشتعال؟ ولماذا أغلقت تركيا مضيقي البوسفور والدردنيل ورفضت مصر طلبا أمريكيا مماثلا بإغلاق قناة السويس؟ وكيف اساء الغرب تقدير الرد الروسي في ازمة أوكرانيا والعقوبات “القاسية”؟
عبد الباري عطوان.
لم يمض الا سبعة ايام على بداية الاجتياح العسكري الروسي لاوكرانيا، ومع ذلك حدثت تغييرات استراتيجية غير مسبوقة في أوروبا والعالم قلبت كل المعادلات الأمنية والسياسية والاقتصادية الراسخة منذ مئة عام على الأقل، والقادم اعظم.
سويسرا المحايدة خرجت عن حيادها، وانضمت الى العقوبات الغربية المفروضة على روسيا، اما فنلندا التي نأت بنفسها بالكامل على توترات الحرب الباردة، قررت التخلي عن سياسة مسك العصا من الوسط، والانضمام الى حلف الناتو، ولحقتها المانيا بالعودة الى التسليح وبناء جيش قوي، وربما رؤوس نووية، اما تركيا، العضو من الدرجة العاشرة وغير المعترف به فعليا في حلف “الناتو”، فقررت تفعيل اتفاقية ” مونترو” عام 1936، واغلاق مضيقي البوسفور والدردنيل في وجه السفن الحربية الروسية ووضعت معظم بيضها في السلة الاوكرانية وزودتها بطائرات “بيرقدار” المسيّرة، وادانت الاجتياح الروسي، وضم شبه جزيرة القرم مجددا، بينما أعلنت مصر عدم التجاوب مع طلبات أمريكية بإغلاق قناة السويس، واكدت حكومتها “القناة ممر دولي عالمي يجب ان تظل محايدة”.
أسعار النفط ترتفع في الأسواق العالمية ووصل سعر البرميل اليوم الأربعاء اكثر من 112 دولارا، الامر الذي سيدر عوائد سخية للخزانة الروسية، في الوقت الذي بدأت تظهر دراسات أولية في الغرب تؤكد ان فرص نجاح العقوبات الامريكية على موسكو تبدو محدودة بسبب الاستعداد الروسي المسبق.
سقوط كييف عاصمة أوكرانيا اصبح مسألة وقت، فعندما يبلغ طول قافلة الدبابات والمدرعات الروسية المتجهة اليها، وحصارها بالتالي، حوالي 65 كيلومترا، وشاهدنا الصور بأم اعيننا، ودون ان تتعرض هذه القوافل لصاروخ واحد من أمريكا وحلفائها، تماما على غرار سيارات الدفع الرباعي التابعة لحركة “داعش” اثناء تقدمها نحو الموصل، الامر الذي يؤكد ان الولايات المتحدة تخوض حربا بالإنابة، وحتى آخر جندي اوكراني.
العقوبات الامريكية لا تستهدف خنق الاقتصاد الروسي ببطيء خلال 5 الى 10 سنوات، وانما لتدميره بالكامل في غضون بضعة اشهر مثلما قال الكاتب الروسي الشهير الكسندر نازاروف، ولكن هذه العقوبات لن تمر دون رد روسي قاسي أيضا، وقد يكون الدولار، العملة الامريكية، هو اول الضحايا، يليه نظام “سويفت” المالي العالمي، بالنظر الى التعاون والتنسيق الروسي الصيني، والاستعدادات المسبقة في هذا الاطار، اما عودة أوكرانيا الى الحضن الروسي بشكل مباشر او غير مباشر فهذه نهاية شبة محسومة.
هناك مقولة للرئيس فلاديمير بوتين باتت تُدرس في الاكاديميات العسكرية الروسية تقول “اذا كان لا بد من الحرب فعليك ان تضرب أولا”، ويبدو انه يطبق هذه النظرية الآن في أوكرانيا التي يعتبرها ارضا روسية.
الحرب العالمية الثالثة يتوقف موعد اشتعالها على أمرين أساسيين: الأول: هو رد الفعل الأمريكي الغربي على دخول القوات الروسية الى قلب العاصمة كييف، واسقاط النظام، والثاني: صمود او سرعة انهيار الاقتصاد الروسي، فاذا صمد هذا الاقتصاد في وجه العقوبات، فإن احتمالات الحرب ستتراجع، اما اذا لم يصمد، وانهار بسرعة، فإن هذه الحرب ستكون وشيكة وربما قبل حلول الصيف المقبل، فالرئيس بوتين لا يمكن ان يقف مكتوف الايدي امام هذا الانهيار، لأنه يعتقد ان زوال روسيا كقوة عظمى وجوع شعبها، يعني زوال العالم الغربي كله أيضا، حسب تسريبات من مصادر مقربة منه.
الخاسر الأكبر في هذه الحرب، سواء كانت ضيقة او موسعة، هي القارة الأوروبية التي استمتعت بالأمن والاستقرار والرخاء الاقتصادي طوال الثمانين عاما الماضية، فأمريكا بعيدة (خمسة آلاف ميل)، وخسارتها اقل، الا اذا لجأ بوتين الى الصواريخ الباليستية برؤوس نووية الاسرع من الصوت، وقرر الضغط على الزر النووي كحل أخير.
مشكلة الغرب، والقيادة الامريكية تحديدا تكمن في تعاملها مع روسيا بوتين بالطريقة نفسها التي تعاملت بها مع روسيا يلتسين، وروسيا غورباتشوف، أي بطريقة فوقية دونية استفزازية مهينة، اعتقادا بأنها لا يمكن ان تخوض حربا كبرى، عالمية او حتى إقليمية محدودة، ولهذا رفضت كليا التجاوب مع مخاوفها الأمنية، وعدم توسيع حلف الناتو وضم الجمهوريات السوفيتية السابقة (عددها 15) اليه.
جامعة جورج واشنطن الامريكية كشفت النقاب عن عشرات الوثائق عن محاضر المحادثات التي جرت بين الإدارة الامريكية برئاسة جورج بوش الاب، ووزير خارجيته جيمس بيكر في حينها، وحلفائه، مارغريت تاتشر (بريطانيا) وهلموت كول (المانيا) من ناحية، والرئيس الروسي الأسبق غورباتشوف وشفرنادزة وزير خارجيته في شباط (فبراير) عام 1990 حول مرحلة ما بعد انتهاء الحرب الباردة، وتوحيد المانيا، وابرز ما كشفته هذه الوثائق (نملك نسخة عنها) تعهد الإدارة الامريكية وحلفائها الأوروبيين بعدم ضم أي من الجمهوريات السوفيتية السابقة الى حلف الناتو، وتوسيعه شرقا بالتالي، او نصب أي صواريخ نووية على حدود روسيا، وذهب دوغلاس هيرد وزير خارجية بريطانيا في حينها الى الالتزام بتحول حلف “الناتو” الى منظمة سياسية وإلغاء طابعه العسكري، لطمأنة غورباتشوف (المتعاون).
الرئيس بايدن تخلى عن هذا الالتزام، وقرر توسيع حلف الناتو، بدءا بضم اوكرانيا اليه، ونصب منظومات “ثاد” الصاروخية النووية في بولندا وبعدها رومانيا وبلغاريا على الحدود الروسية، ويرفض ان يتنازل عن هذه السياسة الاستفزازية الابتزازية، ولعل ايران محقة في الإصرار على الحصول على ضمانات أمريكية بعدم الانسحاب مجددا من أي اتفاق نووي جديد مع أمريكا.
عندما يسود العناد جميع الأطراف المتورطة في التوتر العسكري الحالي، وترفض تقديم التنازلات لخصمها، والروسي في هذه الحالة، فإن خيار الانفجار العسكري سيتقدم ويسود في النهاية، وهذا ما قد يحدث للأسف.. والأيام بيننا.