في عام 1945 اجتمع في يالطا الرؤساء الثلاثة: الأميركي فرانكلين روزفلت، والسوفياتي جوزف ستالين، والبريطاني ونستون تشرشل. في هذا الاجتماع قال تشرشل لزميليْه، وهم على وشك الانتهاء من الاتفاق على اقتسام تركة الحرب العالمية الثانية بعد إلحاق الهزيمة بالنازيّة، إنّ “التاريخ سوف ينصفكما”.
فتساءل الاثنان باستغراب: “وكيف يكون ذلك؟”. ردّ تشرشل: “لأنّني أنا مَن سيكتب التاريخ”.
وبالفعل ابتعد، أو أُبعد، تشرشل عن رئاسة الحكومة، وتفرّغ لكتابة تاريخ الحرب العالمية الثانية، ونال على أساسه جائزة نوبل للآداب، وأصبح كتابه مرجعاً لمؤرّخي تلك المرحلة من تاريخ الإنسانية.
وسواء أنصف التاريخ الرؤساء السابقين الثلاثة أم لم ينصفهم، فإنّ الصراع الخطير الذي تفجّر في أوكرانيا هو ثمرة من ثمار اجتماع يالطا. ذلك أنّه في هذا الاجتماع أقرّ الرئيسان الأميركي والبريطاني مبدأ الهيمنة السوفياتية على أوروبا الشرقية، التي اجتاحها الجيش السوفياتي الأحمر وهو في طريقه إلى برلين للقضاء على النازية في عقر دارها.
في ذلك الوقت ارتفعت أصوات، خاصة داخل الولايات المتحدة، تندّد بالاتفاق وتحذّر من عواقب تداعياته المستقبلية، حتى إنّها وصفت الاتّفاق بأنّه تخلٍّ عن شعوب شرق أوروبا. وبالفعل، شكّل الاتفاق القاعدة التي قامت عليها بعد وقت قصير الحرب الباردة، والتي استمرّت حتى سقوط جدار برلين في عام 1989.
في مذكّراته عن مؤتمر يالطا يقول رئيس الوزراء البريطاني الأسبق تشرشل: “لقد فوجئت خلال الاجتماع بالمبالغة في الثقة بالنفس التي أبداها الرئيس الأميركي، وبالنبرة الحادّة لحديثه مع الرئيس السوفياتي، ولم أفهم سبب ذلك إلا فيما بعد عندما عرفت أنّ الولايات المتحدة أصبحت تملك سلاحاً نووياً، وهو السلاح الذي اُستُخدم للمرّة الأولى في التاريخ ضدّ اليابان (هيروشيما وناكازاكي)، وكان استخدامه رسالة تحذير وتخويف من واشنطن إلى الكرملين”.
كان من بين الذين عملوا على إنتاج القنبلة النووية عالِم ألمانيّ يُدعى أوبنهايمر، وكان قد نُقل من برلين المنهزمة إلى واشنطن بعد سقوط الرايخ الثالث. فيما نقل السوفيات علماء ألماناً آخرين إلى موسكو. ولكنّ إنتاج القنبلة النووية السوفياتية تأخّر، فكان السلوك “المهذّب” لستالين أمام صوت روزفلت المرتفع!!
لا يزال صوت الرئيس الأميركي مرتفعاً حتى اليوم. لكنّ صوت الرئيس الروسي لم يعد منخفضاً. فقد ملأ الضجيج مسرح صراعهما في أوكرانيا. يحاول الرئيس جو بايدن تصحيح ما يعتقده خطأ تاريخياً جرى في يالطا بمنح أوروبا الشرقية جائزة ترضية لستالين، ويحاول الرئيس فلاديمير بوتين التمسّك بما يعتقده حقّاً تاريخيّاً سابقاً حتى لمؤتمر يالطا.
بالأمس، طوال سنوات الحرب الباردة، قامت الثقافة السياسية الأميركية على قاعدة أنّ الاتحاد السوفياتي “شرّ مطلق”، وأنّ الثقة به أو التعاون معه خطأ استراتيجي. واليوم تقوم هذه السياسة على أساس الاعتقاد أنّ الرئيس بوتين يحاول إعادة إحياء الاتحاد السوفياتي، أي إعادة إحياء الشرّ المطلق.
من المؤسف أنّ الرئيس البريطاني الحالي بوريس جونسون ليس ونستون تشرشل لكتابة تاريخ هذه المرحلة من الصراع بين الشرق والغرب. ومن المؤسف أيضاً أنّ كييف ليست هيروشيما (من حيث الجغرافيا). إنّها تقع في قلب أوروبا.. انفجار مفاعل تشيرنوبيل يفسّر ذلك.
انتهت الحربان العالميّتان الأولى والثانية بغالب ومغلوب. هذه المرّة لن يكون هناك مغلوب.. ولن يكون هناك غالب إلا الله.