هل ستغزو روسيا أوكرانيا بناء على حشودها العسكرية الضخمة؟ كيف ومتى؟ أسئلة حيّرت قادة الدول ووسائل الإعلام على مرّ شهور مضت، وبقيت الإجابات عنها حبيسة رأس ونوايا سيد الكرملين (الرئيس فلاديمير بوتين)، وفق ما ذكر كثيرون.
وفي روسيا، التي أكدت مرارا “سخافة فكرة الغزو”، أعلنت وزارة الدفاع، في اليومين الماضيين، بدء سحب بعض القوات المحتشدة قريبا من الحدود الأوكرانية نحو ثكناتها، ثم سرعان ما رحبت أوكرانيا، واعتبر وزير خارجيتها، دميترو كوليبا، أن بلاده و”الشركاء” الغربيين “منعوا التصعيد”.
ولكن، لم تمض إلا ساعات فقط حتى تبدد التفاؤل بإعلان مجلس النواب الروسي (الدوما) المصادقة على مشروع قانون، ورفعه على الفور إلى الرئاسة (الكرملين) للمصادقة، يقضي بالاعتراف -رسميا- باستقلال ما يسمى بـ”جمهوريتي لوهانسك ودونيتسك الشعبيتين” في إقليم دونباس، المعلنتين من جانب واحد، ويسيطر عليهما الموالون لروسيا في جنوب شرقي أوكرانيا.
وسواء أصادق بوتين أم لم يفعل، يرى المتحدث باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف، أن مشروع الاعتراف يعبّر عن رغبة ومزاج عام في روسيا ومجلس الدوما، في إشارة -على ما يبدو- إلى دعوات روسية سابقة على مستوى الأحزاب، لتسليح “الجمهوريتين”، وضمّهما.
هل تجلى سيناريو التصعيد الأبرز؟
هذا التوجه الروسي دفع مراقبين إلى استنتاج أن الهدف من التصعيد الكبير الحالي ليس كل أوكرانيا، وليست العاصمة كييف، كما تردد، بل خلق واقع جديد في دونباس تحديدا، بموجبه قد يضم الإقليم “جمهوريتين مستقلتين” تعترف بهما موسكو، وتكون روسيا مستعدة للتحالف معهما، ومساعدتهما علنا، بل ضمّهما، وفق سيناريو القرم.
الخبير العسكري والرئيس السابق لهيئة الأركان الأوكرانية، فيكتور موجينكو، قال إن هذا السيناريو كان متوقعا، ومرجحا أكثر من غيره، والغرض من نشر القوات حول أوكرانيا كان ولا يزال استعراض القوة، واستخدامها إذا ما قررت كييف ممانعة هذا المشروع الروسي بالقوة أيضا.
لكن موجينكو شدد -في حديثه للجزيرة نت- على أنه من السابق لوقته الجزم بحتمية هذا السيناريو دون غيره، لأن الحشود تطوّق أوكرانيا من جهات عدة، وعنصر المفاجأة يلعب أدوارا حاسمة.
وأشار في هذا الصدد إلى أن روسيا لم تسحب قواتها، بل نقلتها إلى “مواقع غير بعيدة عن الحدود مع أوكرانيا”.
ما تداعيات “الاعتراف بالاستقلال”؟
وتداعيات الاعتراف الروسي المحتمل باستقلال دونيتسك ولوهانسك تختلف حسب الجهات المعنية التي تنظر إلى هذا الاعتراف من زواياها، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية.
فوزارة الخارجية الأوكرانية رأت أن اعتراف موسكو بجمهوريتي دونيتسك ولوهانسك “يعدّ انسحابا فعليا لروسيا من اتفاقيات مينسك للتسوية، بكل ما يترتب على ذلك من عواقب قانونية”.
لكن الأخطر من ذلك، حسب الإعلامي المتخصص بشؤون الحرب يوري بوتوسوف، أن يكون الاعتراف مقدمة لتوسع أكبر في المنطقة.
وأوضح – أن الاعتراف بالاستقلال يشمل حتما الاعتراف بالسيادة وسلامة الأراضي، إذ قد نكون أمام سيناريو دعم هاتين “الجمهوريتين” لاستعادة السيطرة على كل أراضي منطقتي دونيتسك ولوهانسك، تحت عنوان “التحرير من الاحتلال الأوكراني”.
ولفت إلى أن “هذا يشمل مدينة ماريوبول، التي حاول الانفصاليون السيطرة عليها بدعم روسيا في 2014، حتى تربط البر الروسي مع بر القرم المحتل”، وفق قوله بوتوسوف.
ويرى آخرون أن هذا الأمر أيضا قد يمهد لضم دونباس إلى روسيا على غرار القرم، وسيلحق خسائر اقتصادية جمة باقتصاد أوكرانيا، لأنه سيجعلها تقف أمام تحديات فقد الفحم المنتج في تلك المناطق، وربما أمام موجات نزوح واسعة جديدة.
ما خيارات كييف لعرقلة هذا السيناريو؟
ويبدو أن كييف تتحسّب -فعلا- لهذا السيناريو أكثر من غيره، وهذا قد يفسر ما تضمنته تقارير إعلامية سابقة عن أن نصف جيش أوكرانيا النظامي (نحو 120 ألف جندي) منتشر حول مناطق سيطرة الانفصاليين في إقليم دونباس، وفي مناطق مجاورة.
ويبدو كذلك أن تأكيد كييف المتكرر بأن مناوراتها وتدريباتها “دفاعية” في دونباس يهدف إلى عدم تقديم ذريعة تدفع روسيا نحو التقدم، لا سيما أن موسكو هدّدت برد قوي إذا قتل أي روسي في الإقليم.
المحلل السياسي الأوكراني دميترو مارونيتش يقول -للجزيرة نت- إن “كل الأسلحة النوعية والفتاكة التي حصلت عليها أوكرانيا موجهة نحو هذا الغرض، وأعتقد أن الدعم الأميركي البريطاني سيزيد أكثر إذا بدأت فعلا مؤشرات غزو ما، أو احتلال جديد”.
ويؤمن مارونيتش بأن الأوكرانيين سيستميتون دفاعا عن مدنهم، في شرق البلاد وغيرها، معتبرا أن “أي احتلال روسي جديد لأراضينا سيكون بمنزلة خطوة جديدة بين خطوات لاحقة، تستهدف مدنا أخرى، وربما دولا مجاورة في مراحل متقدمة من مخططات بوتين”، على حد قوله.
وأحيا الأوكرانيون أمس الأربعاء “يوم الوحدة”، بناء على دعوة من الرئيس فولوديمير زيلينسكي، فرفع النواب والمسؤولون والعامة أعلام بلادهم في الشوارع والساحات، في إشارة رمزية إلى التماسك في مواجهة تحديات الأزمة الحالية وتداعياتها المحتملة، على ما يبدو.
وتعيش أوكرانيا ومن خلفها الغرب أجواء من التوتر الحاد مع روسيا بعد حشد موسكو في الأسابيع الماضية أكثر من 130 ألف جندي على الحدود، وفي حين نفت مرارا نيتها غزو جارتها الغربية، تلوح الولايات المتحدة والأوروبيون بعواقب وخيمة على روسيا إذا أقدمت على ذلك.