ماذا يعني “تمخطر” بوتين بسيّارته فوق جسر القرم اليوم؟ هل هي مُقدّمات الاحتِفال بالنّصر؟ ولماذا بدأ القادة الأوروبيّون هُجومًا شَرِسًا على بايدن وسِياساته و”تربّحه” من الحرب الأوكرانيّة على حِسابهم؟ وكيف نرى السّيناريو القادم؟
عبد الباري عطوان
ظهر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مُبتَسِمًا وهو يقود سيّارته على جسْر القِرم الذي يربط شِبه الجزيرة التي ضمّتها بلاده عام 2014 باليابسة الروسيّة بعد شهرين من تدميره في رسالةٍ واضحةٍ تقول إن المُنتَصِر هو الذي يُعَمّر، وفي الوقتِ نفسه يستنزف العدوّ، ويُدمّر بُناه التحتيّة، ويُغرِق الغالبيّة من مُواطنيه في الظّلام ودُونَ تدفئة.
لا بُدَّ أنّ الرئيس بوتين وهو يُقدِم على هذه الخطوة الاستعراضيّة المحسوبة بعنايةٍ استمع إلى الجِنرال مارك ميللي رئيس هيئة أركان الجيش الأمريكي وهو يُعلن في مُداخلةٍ له في النّادي الاقتِصادي في نيويورك أن خسائر أوكرانيا البشريّة بلغت في الثّماني الأشْهُر الأخيرة حواليّ 100 ألف بين قتيلٍ وجريح، وأنّه سيكون من الصّعب تعويض هؤلاء.
ولكنّ المُشكلة التي تتقدّم على حجم الخسائر المَذكور آنفًا تتمثّل في حالةِ الغضب التي تسود مُعظم قادة أوروبا في الوقتِ الرّاهن بسبب شُعورهم بأنّ الولايات المتّحدة خدعتهم، بإغراقهم في حربٍ خاسرةٍ مفتوحةِ النّهايات، تستخدمها أمريكا للتربّح سواءً من بيعها النفط والغاز بأسعارٍ مُرتفعةٍ بمِقدارِ أربعة أضعاف لأوروبا، وتُحَقّق عوائد ماليّة ضخمة بسبب المبيعات الأمريكيّة من الأسلحة.
القادة الأوروبيّون بدأوا يَشُنّون هُجومًا شَرِسًا على الرئيس الأمريكي جو بايدن الذي يتبنّى سياسات يُمكن أن تُؤدّي إلى تَفتيتِ الاتّحاد الأوروبيّ لمصلحة الاتّحاد الإنجلو سكسوني الثّلاثي الذي يضمّ بريطانيا وأستراليا وأمريكا وتقويض النّظام الرّأسمالي الغربي الذي اخترق مُعظم أُسسه من خِلال رصد 396 مِليار دولار لدعم الصّناعات الأمريكيّة الخضراء، ممّا قد يُخرج أوروبا وصِناعاتها من المُنافسة، حتّى أنّ رئيس دولةٍ أوروبيّةٍ تساءل في مُقابلةٍ مع صحيفةِ “بوليتيكو”: هل ما زالت أمريكا حليفنا؟
هذا القلق الذي ينتاب القادة الأوروبيّون مرجعه إلى تَعاظُم ظاهرة الانقِلاب المُتصاعدة في أوساط الرّأي العام الأوروبي ضدّ الحرب الأوكرانيّة لأنّها بدأت تنعكس سلبًا على اقتِصادهم ومعيشتهم، وفُقدانهم الثّقة بالحليف الأمريكي وعُقم سِياساته، وآخِرها وضْعُ سَقفٍ لسِعر النفط الروسي في حُدود 60 دولار للبرميل في اعتِرافٍ غير مُباشر بفشل العُقوبات الاقتصاديّة على روسيا وتحقيقها نتائج عكسيّة تمامًا.
هذه هي المرّة الأولى في التّاريخ الرّأسمالي التي يُحَدِّد فيها المُستَهلِك، وليس البائع أسعار السّلع، ووضع كُل نظريّات السّوق جانبًا، ومن المُؤكّد أن الرئيس بوتين لم يُفاجَأ بهذه الخطوة، وأعدّ الرّد عليها مُسْبَقًا، وقد يُؤدّي، أيّ الرّد، إلى تفاقم أزمة الطّاقة في أوروبا فالأسواق الآسيويّة جاهِزةٌ لاستِقبال صادرات النّفط الروسيّة وبأسعار السّوق، أيّ أكثر من ثُلُثْ السِّعر الذي حدّدته الدّول السّبع، ممّا سيعود على الخزينة الروسيّة بمِئات المِليارات من الدّولارات تُمَوّل نفقات الحرب الأوكرانيّة بكُلّ سُهولةٍ ويُسْر.
أوروبا تقف على أبوابِ شِتاءٍ ساخنٍ فالغلاء هو القاسم المُشتَرك في شكاوى شُعوبها، والإضرابات العُمّاليّة باتت تتناسل بشَكلٍ مُتسارعٍ احتِجاجًا على الحرب الأوكرانيّة وتَبِعاتها حتّى أن ريشي سوناك رئيس وزراء بريطانيا لوّح بإنزال الجيش إلى الشّوارع وتولّي إدارة المُؤسّسات الصحيّة والمدرسيّة والخدميّة حتّى لا تنحدر البِلاد إلى حافّة الفوضى والحرب الأهليّة.
الرئيس بوتين “يتمخطر” بسيّارته على جسر القِرم، وزيلينسكي يَصرُخ ويُوَلوِل لنفاذ التّرسانات الأوروبيّة من الأسلحة، وعدم التّجاوب مع طلباته بالحُصول على المُتطوّر والثّقيل منها، وها هو الرئيس الصيني تشي جين بينغ يَشُدّ الرّحال غدًا الأربعاء لتزعّم قمّة لدول مجلس التّعاون الخليجي وبعض قادة الشّرق الأوسط في الرياض، وتوقيع عُقود بأكثر من 110 مِليار دولار مُرشّحة للزّيادة.
حرب أوكرانيا فضحت “الأنانيّة” وقُصر النّظر الأمريكيّين، وقسّمت أوروبا، وثوّرت شُعوبها ضدّ اتّحادها، وحُكوماتها، وكُلّما ازداد الصّقيع شراسةً، وارتفعت حرارة الإضرابات العُمّاليّة، وتَصاعُد الجشَع الأمريكي، كلّما باتت نهاية الحرب وشيكةً وعلى حِساب الشّعب الأوكراني الضحيّة ووحدته الترابيّة.. والأيّام بيننا.