د . حسين المجدوبي …
الوباء العالمي الذي تسبب به فيروس كورونا سيترتب عنه تغييرات كبيرة في العلاقات الدولية، وفي العلاقات الداخلية للأمم، أي بين الشعوب والسلطات التي تمثلها.
وبدأ بعض المحللين يتحدثون عن سقوط دول وتراجع دول أخرى وبالأخص النهضة الكبرى للصين، وتراجع الغرب أيضا وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية، لكن الواقع وما يحمله من مؤشرات مستقبلية لا تشير إلى هذا المعطى بشكل حاسم.
في مقال سابق في ألف بوست بعنوان «فيروس كورونا: فيلم الرعب الذي ينهي العولمة» جرى تناول كيف يحمل الوباء نهاية العولمة، لأنه سيعيد صياغة العلاقات على مستويات متعددة. ويبقى السر في التغيير المقبل هو الوعي الذي إكتسبه المواطن العادي في مختلف الدول. وتأثير هذا الوعي الجيد سيختلف من دولة الى أخرى، ومن قيادة سياسية الى أخرى. سيكون تأثيره سريعا في الدول الديمقراطية، وفي الدول التي تمتلك مشروعا قوميا، وإن لم تكن ديمقراطية مثل حالة إيران.
في أكثر من برنامج في تلفزيونات إسبانيا وفرنسا وإيطاليا وبلجيكا، وحتى الولايات المتحدة الأمريكية، تساءل الأطباء والمواطنون بإندهاش ممزوج بجرعات كبيرة من الإستياء: هل تعجز الدولة عن تصنيع الكمامات الطبية وآلات التنفس لإنقاذ المرضى؟ وهو تساؤل مشروع لغياب عذر في دول متقدمة صناعيا، وليست الدول ذات البنيات الهشة. ومن ضمن ردود الفعل الإيجابية على هذه التساؤلات، ما صدر عن رئيس حكومة إسبانيا بيدرو سانتيش ليلة السبت الماضي، وهو يعلن خطورة الوضع : «إسبانيا ستوجه كل طاقتها ومجهوداتها للتصنيع الطبي، حتى لا تحتاج إلى أي بلد آخر، وليكون لديها دائما إحتياطي إستراتيجي لمواجهة الأزمات». ما ردده المسؤول الإسباني يتردد في أكثر من عاصمة غربية، وفي أكثر من عاصمة في الدول التي تمتلك قيادات سياسية واعية.
وعليه، وعي المواطن هو الذي سيدفع الدول نحو إعادة النظر في النموذج الإقتصادي، بإستعادة التصنيع المحلي – الوطني، بعدما فوضت الكثير من الدول للصين بالتحول إلى أكبر مصنع في العالم، يزود البشرية بالكثير مما تحتاجه. ولهذا، نرى طائرات صينية محملة بالمساعدات الطبية الصينية، تتوجه إلى مختلف دول العالم، وفي مختلف القارات، من دون إستثناء للمساهمة في القضاء على فيروس كورونا. وإرتباطا بهذا، فقد بنى عدد من الباحثين في العلاقات الدولية، خاصة الشق المتعلق بالجيوسياسية «الجيوبولتيك»، أطروحة جديدة تتحدث عن إنهيار النظام العالمي، بإنهيار الثقافة المسيحية – اليهودية، وهو ما يطرحه الفيلسوف الفرنسي ميشال أونفراي، في حديث له مع مجلة «لوبوان» في عددها الأخير. ولم يتردد في وصف أوروبا بالعالم الثالث، لعجزها عن تقديم العلاج للجميع. ويرى في الوباء العالمي الناتج عن فيروس كورونا منعطفا يمهد لمسألة إنهيار الحضارة اليهودية – المسيحية، أي التركيز على أفكاره الواردة في كتابه «الإنحطاط»، وهي أفكار قامت بتحديث الأطروحة السائدة منذ العقد الثاني من القرن الماضي، عندما كتب الفيلسوف الألماني أرنولد شبينغلر كتاب «إنهيار الغرب». في الإتجاه نفسه ذهب بعض كتاب المجلة الأمريكية «فورين بوليسي» إلى القول بإنتصار الصين وخروج الولايات المتحدة الأمريكية ضعيفة.
نعم، تحظى الصين الآن بصورة مشرقة في أعين الرأي العام العالمي، بما في ذلك جزء كبير منه أمريكي، بسبب إحتوائها للفيروس، في ظرف ثلاثة أشهر من إندلاعه، وتقديمها المساعدات للعالم، ومنها الغربية مثل، إيطاليا وفرنسا وإسبانيا وبلجيكا. وأصبح العالم يتحدث عن إحتمال قيادة الصين لنظام دولي جديد مستقبلا، فالتاريخ يصنعه ويكتبه المنتصرون، والحرب ضد فيروس كورونا هي حرب كونية في وقتنا الراهن. والواقع أن الدولة العميقة بمفهومها الكلاسيكي في الغرب، خاصة الولايات المتحدة غير المرتبطة بنيوليبرالية والمعادية للعولمة، تجد في الوباء العالمي كورونا خير حليف لإنعاش أطروحاتها، وهي «الإكتفاء الذاتي الشامل» على شاكلة الستينيات والسبعينيات بإستثناء الموارد الأولية إذا كانت تفتقر إليها.
العالم والغرب مقبلان على إعادة النظر في طريقة الإنتاج، في هذا الصدد ستكون الأولوية للمحلي– الوطني على حساب الإنتاج الدولي أو التجارة الدولية. فقد أظهرت هذه الأزمة أن الإعتماد على الإمدادات في التجارة الدولية يحمل صعوبات تصل إلى الموت في حالة الأزمات المرتبطة بالأوبئة، فنسبة مهمة من الوفيات في إيطاليا وإسبانيا مرتبطة بالنقص في الوسائل الطبية، مثل القفازات والكمامات وآلات التنفس. وعليه، يوجد عاملان متداخلان ومكملان لبعضهما بعضا سيرسمان ملامح الغد جيوسياسيا:
*الأول ويتجلى في وعي الدول بضرورة الإكتفاء الذاتي، وهذا يعني تغليب التصنيع المحلي، لاسيما وأن هذا الوباء العالمي قد يتسبب في أزمات اقتصادية عظمى. وها هي الدول تخصص ميزانيات عملاقة للحفاظ على الإنتاج، وتفادي الإنهيار. وهذا يترجم بالرهان على مشاريع وطنية، وتقليص الواردات لخلق مناصب الشغل. وهذا هو المطلب الرئيسي للدولة العميقة في الغرب. وقد إستغل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الأزمة، لتوجيه جزء من الصناعة المحلية نحو حاجيات المستشفيات في الوقت الراهن.
*والعامل الثاني، ترغب الولايات المتحدة بإقناع شركائها بأن الوباء فرصة تاريخية للتقليل من الإعتماد على الصين، والحيلولة دون ريادتها للعالم مستقبلا، فهي تعادي قيم الغرب، وأنه حانت الفرصة لإعلان حرب باردة ذات طابع تجاري ضد العملاق الآسيوي.
نظريا، تعتبر الصين منتصرة في أعين الرأي العام العالمي، جراء إحتوائها للوباء، وتقديم مساعدات لعشرات الدول، ولكنها في العمق لم تنتصر، فهي تدرك أن وارداتها ستتراجع بعد أزمة الوباء، وأن العولمة التي مكنتها من أكبر قفزة نوعية في إقتصادها القائم على التصدير، قد أشرفت على نهايتها. الولايات المتحدة لم تنهزم والصين لم تنتصر، إنه عنوان العالم الجديد بعد وباء كورونا، الذي سيدخل أكبر حرب باردة ولكن هذه المرة تجارية يتزعمها البلدان وتتميز بحدة الإستقطاب.