هل يدخل الصحافيون الجنة؟
هذا كتاب للكاتب والصحافي الكبير معلم الأجيال محمد العزبي. محمد العزبي المولود في 21 فبراير/شباط 1931، درس الطب لكنه التحق بالعمل في الصحافة تحت التمرين، في مجلة «آخر ساعة» ثم انتقل إلى كلية الآداب جامعة القاهرة قسم صحافة وتخرج فيها. التحق بعد ذلك بمجلة «التحرير» التي أنشأتها ثورة يوليو/تموز ثم جريدة «الجمهورية».
عمل الصحافي الكبير شيخ الصحافيين محمد العزبي سنوات في القسم الخارجي لجريدة «الجمهورية» ثم تنقل لفترات محدودة بين مختلف أقسام الجريدة، حتى أصبح مديراً لتحرير العدد الأسبوعي. سافر إلى معظم بلاد العالم، وأصدر كتابا عن رحلاته سماه «مسافر على كف عفريت». عمل رئيسا لتحرير جريدة «الإجيبشيان جازيت» حتى وصوله إلى سن المعاش، ونال عن تطويرها جائزة مصطفى وعلي أمين عام 1991، وحصل على وسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى في العام نفسه. من كتبه الشهيرة» صحافيون غلابة» و»كُناسة الصحف».
يعترف الجميع للرجل بتاريخه المضيء.. وأنا واحد من هؤلاء رغم بعدي عن العمل الصحافي، فقد كانت كتاباته من أعظم ما كنت أقرأ لغة متوهجة وموضوعات مثيرة. تمر الأيام والسنين ويسعدني الحظ بأن أقرأ كتابه الأخير «هل يدخل الصحافيون الجنة» الصادر العام الماضي من دار ريشة. كنت أعرف أن الكتاب مقالات له، لكنه لم ينشرها مرتبة بتاريخ نشرها. جمع كل المتشابه منها في فصل مستقل فبدا عملا أدبيا إلى جانب كونه عملا فكريا. عنوان الكتاب يثير سؤالا لكن هل ستجد عليه إجابة؟ بالطبع لن تجد، لكن العنوان يُنذر بما سيأتي في الكتاب، فقد بدأ عصر التدخل في الصحافة بعد ثورة يوليو 1952، ثم كانت الخطوة الحاسمة عام 1960حين تم تأميم الصحف. يحكي ما كتبه رشاد كامل المؤرخ للصحافة والصحافي المشهور على لسان فتحي غانم حاسما الأمر كله فيقول «دخلت القاعة في مقر مجلس الوزراء في حي مصر الجديدة يوم 24 مايو/أيار 1960 لأجد كبار الصحافيين مثل، علي ومصطفى أمين وفكري أباظة وإحسان عبد القدوس وأنيس منصور، بجانب سيد أبو النجا (خبير إدارة الصحف) كأنهم يجلسون في سرادق عزاء، لكنهم لا يعرفون ما الأسباب التي أدت إلى وفاة الفقيد.. كان الفقيد بالطبع حرية الصحافة التي تم تأميمها في هذا الاجتماع».
يتنقل بين الماضي البعيد والقريب، ويجعلك تدخل عالم الصحافة كأنك في صالة التحرير. على الناحية الأخرى، الصحافيون الذين لم ينصاعوا لذلك، وكيف تم فصلهم وكيف عادوا مثل، صلاح عيسى، وخلال ذلك تجد حضورا ساطعا لأعلام الصحافة مثل مصطفى وعلي أمين وإحسان عبد القدوس وحسنين هيكل، وكيف انتهي بهم الأمر بعد الصدام مع السلطة ـ هيكل مع السادات لا عبد الناصر – ولا يقف الأمر عند هؤلاء أو جيلهم، بل يمتد الحديث إلى الأجيال التالية مثل، عادل حمودة ومصطفى بكري ومجدي مهنا ومجدي الجلاد وغيرهم كثير جدا، وعلاقته الطارئة مع بعضهم، وكيف كانوا يديرون الصحف بدورهم.
لا يتوقف الأمر عند القضايا الاجتماعية والاقتصادية فقط، بل يمتد إلى القضايا الفنية وعلاقته هو بالكثير من هؤلاء وبعادل إمام، الذي غاب عن مسلسلات رمضان. ويحدثنا عن رحلاته إلى الخارج، وكيف كان يتفادي مقابلة السفراء وتأتي حادثة قابل فيها أحد السفراء مضطرا بعد الحاح المستشار الإعلامي، فكانت أسئلة السفير أشبه بالتحقيق عن لماذا جاء، وما الهدف من زيارته وغيرها، كأن المراقبة في الداخل والخارج.
تفاصيل كثيرة عن دور الدولة في تشويه الصحافة، ليس أقلها قرار السادات بإحالة الصحافيين إلى المعاش في سن الستين. كان يريد التخلص من بعضهم مثل مصطفى أمين وجلال الدين الحمامصي، لكنهما لم يتوقفا عن الكتابة. العلاقة مع السلطة تشبه التربص، والسلطة لا تقبل إلا ما تريد، لكن الصحافة يمكن أن تتحايل وتلتف، وإن كان الوصوليون كثيرين أيضا فيها. لقد ضرب مثلا بالتربص رأي جمال عبد الناصر في كاريكاتير لحجازي عن زوجة تخبئ عشيقها تحت السرير، باعتباره قلة أدب، وأضيف أنا لقد سمعت السادات نفسه يهاجم كل رسامي كاريكاتير «روز اليوسف» و«صباح الخير» وعلى رأسهم حجازي وصلاح الليثي.
قرر عبد الناصر أن الصحافة ليست للأغنياء بعد جنون صحافي من جريدة «الأخبار» بحثا عن الأرمينية تاتا زكي، التي اختفت وهي حلم الكثيرين من الكبار، صارت أسطورة. وهنا قال عبد الناصر إن الصحافة يجب أن تكون عن كفر البطيخ وأهلها. قالوا إن هذا هو سبب تأميم الصحافة، لكن الأستاذ العزبي يقول إن الأمر مبيت له من قبل، وإلا ما تم الدفع بعدد كبير من الضباط الأحرار لدراسة الصحافة، ليكونوا مؤهلين لذلك اليوم. والحقيقة أن ذلك صحيح.
المهم أصبحت كفر البطيخ شعار المرحلة، لقد اختلف عبد الناصر مع أكبر مؤيديه مثل إحسان عبد القدوس وسجنه في السجن الحربي، ولم يطل الوقت وخرج ودعاه إلى بيته ليسأله «اتربيت ولا لسة؟». يمكن أن تجد القصة كاملة في كتاب الصحافية زينب عبد الرازق «إحسان عبد القدوس.. معارك الحب والسياسة» والقصة بالنسبة لمحمد العزبي كانت أمامه وعاصرها. الدرس الذي ينساه الكثير من الصحافيين أنه مهما قدمتَ للنظام الحاكم، ففي لحظة ينتهي دورك بالنسبة له ويركنك على الرف في أي شكل وهذا أمر نراه حولنا. ثم يأتي الحديث عن اعتقالات يناير/كانون الثاني عام 1959، وكيف صار المئات من الأساتذة والكتاب متهمين بالشيوعية، وكيف كتب بعضهم عن أيام الاعتقال. مثل «الأوردي – مذكرات سجين» لسعد زهران و«يوميات الواحة» لصنع الله إبراهيم و«شيوعيون وناصريون» لفتحي عبد الفتاح و«الأقدام العارية» لطاهر عبد الحكيم وغيرها. وكيف كانت المعاملة والتعذيب، وكيف تم القبض عليه هو أيضا، وشاهد الكثير مما يتحدث عنه، وحادثة قتل شهدي عطية الشافعي، التي عرف عنها عبد الناصر وهو في يوغسلافيا فأرسل لوقف التعذيب مؤقتا فالتعذيب لم ينته.
وهنا نجد معلومة اعترف بأني أول مرة أعرفها، حديث أعرفه عن اللواء حمزة البسيوني أكبر من مارس التعذيب على المعتقلين، الذي كان يعتبرهم كلابا يتسلمهم بلا عدد فلن يسأله أحد عن من يموت، فهو حمزة البسيوني الذي يحيي ويميت. لقد انتهي نهاية مرعبة وبشعة وهو يقود سيارته بسرعة وأمامه شاحنة تحمل أسياخا من حديد التسليح بارزة أطرافها من الخلف فدخلت في صدره وفصلت رأسه. قبله نجد حديث عن حمزة البسيوني آخر، وهذا هو الجديد بالنسبة لي ولم أكن أعرفه. طبيب كان يُعرَف بأنه طبيب الغلابة، نشأ في محافظة الدقهلية وعاش بقية عمره في الإسكندرية طبيبا للناس البسطاء، تم سجنه بالتهمة الشيوعية نفسها في العصر الملكي وبعد ثورة يوليو، وزامله في الاعتقال يوسف إدريس، كما زامله من قبل في دراسة الطب في القاهرة وأحبه، حتى أنه جعله بطلا لروايته القصيرة «قصة حب» التي تحولت إلى فيلم بعنوان «لا وقت للحب» بطولة فاتن حمامة ورشدي أباظة، الذي حمل اسم حمزة. ويتساءل محمد العزبي ماذا لو التقى الاثنان، الطبيب والجلاد في الآخرة! الطرافة على طول الكتاب باب لفهم البشع من الأمور بلغته الجميلة التي تقفز بك كما تقفز بالأحداث، وهو كثير الاستشهادات التي توجز ما يقول من كتب أو روايات قرأها لكل الأجيال، أو من دواوين شعر. وينتهي بمقال «ياخوفي من النسيان» يعود فيه إلى عمره الذي أنساه الكثير، وحرمه من قراءة الكثير. فيتحدث عن الزهايمر الذي أصاب عمر الشريف في سنواته الأخيرة وغيره من المشاهير، وما قاله رونالد ريغان عن الزهايمر من أنه مرض جميل، تقابل الأشخاص أنفسهم وتظن أنك ترى وجوها جديدة كل يوم. كتاب رائع فيه تاريخ الوطن حتى الآن وليس مجرد حديث عن الصحافة، فمن خلالها تقفز كل القضايا.
روائي مصري