كيف يكرّسُ بلاغ العدالة والتنمية التطبيع حتى وهو يتظاهر بالاعتراض عليه؟

Advertisement

عبد السلام بنعيسي
أوردت الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية في مستهل البلاغ الذي نشرته ردا على ما جاء في بلاغ الديوان الملكي، بخصوص العلاقة المغربية مع الكيان الصهيوني التالي: (((تلقت الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية بكل ما يليق من تقدير، البلاغ الصادر من الديوان الملكي، باعتبار مكانة جلالة الملك حفظه الله وانطلاقا مما يكنه الحزب لجلالته من توقير واحترام، وتؤكد أن الحزب لا يجد أي حرج في تقبل ما يصدر عن جلالته من الملاحظات والتنبيهات، انطلاقا من المعطيات المتوفرة لديه، وباعتباره رئيس الدولة، وممثلها الأسمى، ورمز وحدة الأمة، وضامن دوام الدولة واستمرارها))).
هذه المقدمة الواردة في نص البلاغ المشار إليه، رغم أنها تتضمن قدرا لا بأس به من التحايل والتمسكن والتأسف الضمني عما صدر عن الحزب، فإنها لم تقترب من أهم ما جاء في بلاغ الديوان الملكي الذي كانت تردُّ عليه، وتقفز على الفقرة المهمة فيه والتي تضمنت التالي: ((إن السياسة الخارجية للمملكة هي من اختصاص جلالة الملك، نصره الله، بحكم الدستور، ويدبره بناء على الثوابت الوطنية والمصالح العليا للبلاد، وفي مقدمتها قضية الوحدة الترابية))).
فإذا كان الحزب يعترف للملك، رئيسا للدولة، وممثلها الأسمى، ورمز وحدة الأمة، وضامن دوام الدولة واستمرارها، وأنه يتوفر على ما يكفي من المعلومات التي قد لا تكون في حوزة الحزب، وأنه يتصرف في ضوء هذه المعلومات، وإذا كان بلاغ الديوان الملكي قد أورد بأن السياسة الخارجية للمملكة، هي من اختصاص الملك، فإن على حزب العدالة والتنمية أن يكون منسجما مع نفسه، وألا يدلي بأي رأي مختلف، مع رأي الملك، في موضوع السياسة الخارجية، وألا يجعل من وزير الخارجية مشجبا يعلق عليه الملاحظات أو الانتقادات التي لديه عن أداء وزارة الخارجية، فالوزير ناصر بوريطة، وفقا لما يستشف من الفقرة المشار إليها في بلاغ الديوان الملكي، لا يعدو كونه، واجهة، ينفذ التعليمات التي يتلقاها من القصر الملكي..
ad
رغم أنه لا يوجد في الدستور المغربي ما يشير إلى أن الملك هو المسؤول عن السياسة الخارجية للدولة، فإن منطوق مقدمة بلاغ حزب العدالة والتنمية، مصاغةٌ، بطريقة توحي وكأن الملك فعلا مسؤول عن السياسة الخارجية للبلد، طبقا للدستور، كما جاء ذلك في بلاغ الديوان الملكي. المتعارف عليه مغربيا، هو أن الملك يقوم مقام الحَكَم بين الفرقاء السياسيين، فهو يكتفي بإعطاء التوجيهات العامة، ويدع آليات التنفيذ ومستلزماته للوزراء المشرفين على القطاعات التي يديرونها، وحين يتم توجيه النقد للوزراء، فإن يوجه إليهم، على أساس، فشلهم في بلورة التوجيهات الملكية بالطريقة المثلى، لكن حين يفيدنا الديوان الملكي بأن السياسة الخارجية من اختصاص الملك، رداًّ على نقدٍ تم توجيهه لأداء وزير الخارجية، فهنا يكون النقاش قد انتقل إلى مستوى أعلى من المعهود، وكان على حزب العدالة والتنمية التركيز على هذه النقطة في بلاغ الديوان الملكي، ومناقشتها، بدل السكوت عنها، واستساغتها، كما جاء في مقدمة بلاغ الحزب.
حين ((( تؤكد الأمانة العامة أن ممارسات الحزب ومواقفه وبلاغاته مقيدة بما يخوله الدستور لأي حزب سياسي من كون الأحزاب تؤسس وتُمارس أنشطتها بحرية في نطاق احترام الدستور والقانون، وفي إطار حرية الرأي والتعبير المكفولة بكل أشكالها بمقتضى الدستور، ومن منطلق القيام بالواجب الحزبي والوطني في احترام تام للمؤسسات الدستورية ومراعاة للمصالح الوطنية العليا)))، فإن الأمانة العامة للحزب لم تجب بوضوح على الجملة الواردة في بلاغ الديوان الملكي، والتي تتحدث عن كون السياسة الخارجية للدولة هي من اختصاص الملك، فهل يوافق الحزب على القول الوارد في هذه الفقرة أم لا؟ إذا كان الحزب يوافق عليها، يتعين عليه أن يفيدنا بالبند المتضمن في الدستور الذي يفيد بأن السياسة الخارجية من اختصاص الملك فعلا، وإذا لم يكن موافقا على تلكم الفقرة، كان لزاما عليه إبداء رأيه في هذا الشأن. جوهر النقاش يتعين أن ينصب حول هذه النقطة بالذات التي أوردها بلاغ الديوان الملكي.
عندما يُسلّمُ حزب العدالة والتنمية بأن الملك مسؤول حقا عن السياسة الخارجية للدولة، يتعين على هذا الحزب، وعلى غيره من الأحزاب والمنظمات والجمعيات التي تعارض التطبيع وتنتقد أداء وزير الخارجية ناصر بوريطة، التوقف عن توجيه أي كلمة نقد للوزير حول موضوع التطبيع، وحول أي موضوع آخر يتعلق بالسياسة الخارجية للبلد، فالوزير لا يتحمل أي مسؤولية في هذا الجانب، ونقده والاعتراض على أدائه وتصريحاته، نقدٌ للجهة التي لا ينبغي أن يتوجه إليها النقد. وبلاغ حزب العدالة والتنمية، يندرج في هذا السياق، وهو بالتالي، يُكرّسُ، في العمق، هذا الواقع، حتى وهو يحاول، في الظاهر، الاعتراض عليه.
ففي الكلمة التي ألقاها ضمن أشغال المؤتمر الوطني لنقابة حزبه الاتحاد الوطني للشغل بالمغرب، يوم السبت الفائت، أي مباشرة بعد البلاغين المذكورين، قال بنكيران الأمين العام لحزب العدالة والتنمية: (((إن حزبه يعرف ماذا يعني الملك، فالملك جاء قبل الدستور منذ أربعة قرون وأسرته تتولى حكم البلاد بلا دستور، وبلا حقوق الإنسان، بل بالبيعة فقط)))، مضيفا أن (((علاقتنا مع الملك محكومة بمنطق المرجعية الإسلامية المبنية على النصح، والسمع، والطاعة، لأن الله هو من قال لنا، أطيعوا الله والرسول وأولي الأمر منكم))).
جميع الملكيات كانت قبل ظهور الديمقراطية والدساتير، ملكيات تنفيذية ومطلقة، ولا تحاسب على ما تفعله، وكانت علاقة مواطنيها بها مبنية على السمع والطاعة، وهذا ليس أمرا فريدا في المغرب لوحده، لكن تطورت الأوضاع في أغلب الملكيات، وصارت ذات طبيعة رمزية، وتترك للشعوب حق انتخاب ممثليها الذين يدبرون شؤونها الحياتية طبقا لتعاقد بين الطرفين، ووفقا لمبدأ المساءلة والمحاسبة، ولعل هذا ما يطمح إليه المغاربة، لكن بنكيران لا يتكلم، إلا للتأكيد على بقاء الملكية في المغرب تنفيذية، وتكريس تنفيذيتها، بل ها هو يقولها بوضوح في تصريحه: علاقتنا بالملك مبنية على السمع والطاعة. وواضح أنه يعتذر بهذا التصريح عن البلاغ الصادر عن حزبه، كما أنه يتعهد ضمنيا بعدم العودة إلى إثارة موضوع التطبيع من جديد، ما دامت معارضة التطبيع ليست عنده، قضية مبدأ، بقدر ما هي استثمار في معارضة التطبيع، من أجل العودة إلى السلطة.
ما يؤكد هذا الاستثمار هو أن الأمين العام السابق لحزب العدالة والتنمية سعد الدين العثماني هو الذي وقّع على وثيقة التطبيع، من موقعه كرئيس للحكومة، فعندما كان الحزب في السلطة وافق على التطبيع وباركه، بشبه إجماع كافة أعضائه القياديين، وخرج وقتها عبد الإله بنكيران بنفسه ينافح عن التوقيع على التطبيع، ويزدري وينهر الذين رفضوا التوقيع، واليوم ها هو الحزب، برئاسة بنكيران ذاته، من خارج السلطة، يصدر البلاغات الرافضة للتطبيع. المؤكد هو أنه لو كان الحزب لا يزال في كنف السلطة، وينهل من امتيازاتها، ما كان ليجاهر بمعارضة التطبيع، وإنما كان سيظل على موقفه المؤيد له، كما كان عليه الحال، في عهد العثماني وهو رئيس للحكومة…
صحافي وكاتب مغربي

Advertisement
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.